المطلب الثاني: أهمية فقه الموازنة:
إن الناظر المتفحص لكتابات الإمام ابن تيمية يرى أنه يولي أهمية كبيرة لهذا الفقه، فهو "من أئمة الهدى الذين كان لهم قدم راسخة في فقه الأولويات وفقه الموازنات"
>[1] ، وقد بين الإمام أهمية فقه الموازنات فاعتبره حقيقة ما جاءت به الرسل، قال: "فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف، ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند المزاحمـة، فإن هذا حقيقة ما جاءت به الرسـل"
>[2] ، بل اعتبره فقه خـاصة العلماء بالدين، قال: "فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل، بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه، وتنكر أنكر المنكرين، وترجح أقوى الدليلين: فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين"
>[3] .
ولقناعة الإمام ابن تيمية بجدواه وأهميته، أكد أن جنسه لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وإن اختلفت في أعيانه، بل ذلك ثابت في العقل
>[4] ،
[ ص: 141 ] كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وينشد:
أن اللبيب إذا بدا من جسمه مرضان مختفيان داوى الأخطرا
>[5]
وتأكيدا من الإمام لهذا الرأي يعطي مثالا بالطبيب معتبرا أن "الطبيب يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض، والفساد أداة تزيدهما معا، فإنه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافا للمرض، وعند ضعف القوة فعله، لأن منفعة إبقـاء القـوة والمرض أولى من إذهابـهما جميعا، فإن ذهاب القوة مستلزمة للهلاك"
>[6] .
ويرى الإمام أن الجهل بهذا النوع من الفقه يوقع الناس في الغلط، يقول: "ومن هنا يغلط كثير من الناس فينظرون ما في الفعل أو المال من كراهة توجب تركه، ولا ينظرون ما فيه من جهة أمر يوجب فعله"
>[7] .
وانطلاقا من نظرة الإمام المتفحصة للفقه اعتبر أن الموازنة من الأصول الأصيلة التي بني عليها التشريع الإسلامي
>[8] ، وأن مقتضاها هو مطلوب الشريعة، الذي أمرت بتطبيقه واعتباره
>[9] ، وأن مدار الشريعة على أن
[ ص: 142 ] الواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت، كان الحاصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع"
>[10] ، كما أن معرفته من تمام الورع، يقول: "وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسـد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع"
>[11] .