علم الجمال رؤية في التأسيس القرآني

الدكتور / عبد العظيم صغيري

صفحة جزء
الفصل الرابع

علم الجمال الإسلامي

مساهمة في التأصيل والتجديد

عادة ما تثار نقاشات حادة ترتبط بالإشكالات المتعلقة بالتعريفات والحدود في مختلف الفنون والمعارف، وتزداد هاته الحدة أكثر عند إضافة صفة "الإسلامي" إليها، لذلك يتساءل الكثيرون بنبرة استنكارية واضحة: لـماذا نضيف صفة "الإسلامي" إلى الجمال؟ وما الفائدة من هاته الإضافة؟ أليس "الجمال" معطى كونيا يشترك فيه بنو البشر؟ فلم الحاجة إلى حصر العلم به في نطاق عقيدة أو توجه أو حضارة بعينها؟ ثم ألا يؤدي الاكتفاء بـ"علم جمالي" كوني واحد، إلى تذويب الإنتاجات الجمالية لدول الهامش، لفائدة الدول الأكثر قدرة على نشر إنتاجها الجمالي والتسويق له؟ ولماذا تقوم قائمة النقاد عند إضافة صفة "الإسلامي" إلى أي فن أو علم، ويسكتون عند الصفات الأخرى مثل "الليبرالية" أو "الماركسية" وغيرها؟ ثم [ ص: 135 ] لماذا نعيب على المسلمين استغلالهم للفن والجمال، لخدمة قضايا ومبادئ دينية بعينها، ولا نعيب على غيرهم ذلك، عندما يوظفون الفنون لخدمة إيديولوجياتهم وأفكارهم ومبادئهم؟

قبل الشروع في الإجابة عن هاته الأسئلة، نستهدي بكلام نفيس للأستاذ راشد الغنوشي قال فيه: "وراء كل لحن، وكل آهـة، وكل صـورة شعرية أو زيتية أو نثرية، تكمن خلفية اعتقادية: نظرة للحياة وللهدف منها، وللإنسان ودوره، وللكون والقوى التي تتحكم فيه. ومهما يبذل الشعراء والفنانون من جهد لإقامة حد فاصل بين إنتاجهم ومعتقداتهم وأفكارهم؛ فإنهم -لا محالة - خائبون، وحتى من لـم يعترف منهم بذلك زاعما أن إنتاجه صورة صادقة للطبيعة ووصف موضوعي لـما شاهد فهو مخدوع، والناقد البصير لا تخفى عليه شخصية الفنان أو الكاتب متجسدة بكل ملامحها في آثارهما؛ إذ إن الإنتاج الأصيل هو صورة صادقة لشخصية صاحبه، ومحال أن تنجح في إقامة حاجز بين شخصية الإنسان وبين أفكاره ومعتقداته واتجاهاته؛ لأن الشخصية في جزئها الفعال ليست أكثر من ذلك" >[1] .

نضع أيدينا مع الغنوشي، حفظه الله، على حقيقة مهمة، وهي استحالة الفصل بين الفن وبين الخلفية الاعتقادية والثقافية لصاحبه، فكل لحن وآهة ورسم وكلمة تعكس مرئيات شخصية من صدرت عنه، وتجلي ما خفي عنه، إنها بطاقة تعريف تكشف من بين السطور عن مواقف صاحبها [ ص: 136 ] ومرجعيته الفكرية وخلفيته المعرفية، بل وانفعالاته وأحاسيسه ومشاعره أيضا. لذلك نقرر أن ادعاء الحيدة التامة في الأفكار والإبداع هو نوع من الدجل، وتجاف عن الحقيقة التي تشهد لها التجارب، وتعضدها الأدلة، وتنصرها شهادة الإنسان المبدع على نفسه.

يقال: إن السكوت في بعض المواطن كلام بليغ، وعدم الرد أحيانا يكون أبلغ من الرد، أي أنه حتى في الـمواقف التي يخيل للرائي أنها سلبية، يكون التعبير عن المواقف والقيم فيها واضحا وقويا، ألـم يعبر "سارتر" يوما عن موقفه من الحياة بالعبث، ألـم يقلب رفيقه في الوجودية "كيرجراد"، الكوجيتو الديكارتي المعروف إلى كوجيتو جديد، مضمونه: "أنا أفكر إذن أنا غير موجود"، ليبين أن لا براءة لأي موقف أو سلوك يصدر عن الإنسان، حتى لو بدا متطرفا وخارجا عن معهود الناس في الخطاب والتواصل.

يقول فيلسوف الوجودية "سارتر"، موضحا استحالة تحقق الحيدة حيال الـموجودات نطقا وصمتا: "مادام الكاتب قد أخذ على نفسه أن يعمل عن طريق اللغـة؛ فليس له بعد ذلك أن يتقاصر بهمتـه عن البيان، إذا اخترت لنفسك عالـم الألفاظ ودلالتها فلا سبيل لك بعد ذلك إلى الخروج، دع الكلمات تنتظم حرة في سلك الجمل؛ فستحوي كل كلمة اللغة كلها، بل سيتحدد الصمت نفسه بالإضافة للكلمات، كما تأخذ السكتة في الموسيقى معناها من أصناف ما يجاورها من ألحان؛ فهذا الصمت لحظة من لحظات الكلام. [ ص: 137 ]

فليس السكوت بكما، ولكنه رفض للتكلم، إذن فهو نوع من الكلام. فإذا اختـار كاتب أن يمسـك عن الكلام عن مظهر من مظاهر العالـم، أو بالأحرى إذا اختار أن يـمر به في صمت؛ فلنا الحق أن نضع له السؤال: لماذا فضلت الكلام في هذا الأمر دون ذاك؟ وبما أنك تتكلم قاصدا التغيير؛ فلماذا تريد تغيير هذا دون ذاك" >[2] .

ويقول في موضع آخر: "يدرك الكاتب الملتزم أن الكلام عمل، ويعلم أن الكشف نوع من التغيير، وأنه لا يستطيع الكشف عن شيء إلا حين يقصد إلى تغييره، وقد تخلى عن ذلك الحلم المتعذر التحقيق من رسم صورة للمجتمع أو للحالة الإنسـانية دون تحيز فيها؛ فالإنسان هو المخلوق الذي لا يحتفظ حيال موجود ما بالحيدة، والإنسـان كذلك هو المخـلوق الذي لا يمـكن أن يرى حـالة دون أن يغيرها؛ لأن نظرته تسجـل، أو تهدم، أو تصور، أو تفعل فعـل الأبدية في تمثيل الأشياء، إما بالحب، أو البغض، أو الغضب، أو الخـوف، أو السـرور، أو الحنق، أو الإعجاب، أو الأمل، أو اليأس، فبهذه المشاعر يتكشف الإنسان والعالـم عن حقيقتهما" >[3] .

لا حيدة إذن في المواقف والتصورات، ولا حيدة في الكتابة والإبداع، ولا حيدة في العلم والفن، لذلك يجب أن نقبل - ويقبل الجميع - بتسمية "علم الجمال الإسلامي" دون مركب نقص، ودون اتهام لأصحاب هذا [ ص: 138 ] الاتجاه بفساد قصودهم ونياتهم، والتمترس خلف الأحكام الجاهزة والتسلح بالنعوت القادحة لرمي دعاة هذا العلم بمنجانيق الأدلجة وتسييس الفن والجمال. ثم إن المسلمين ليسوا بدعا لوحدهم في ادعائهم بوجود علم إسلامي للفن والجمال خاص بهم، فالتاريخ يحدثنا عن الفن الاشتراكي وكيف وظف الفنون الجميلة في خدمة مذهبه، والتبشير به عبر جماليات المسرح والسينما >[4] ،كما حدثنا عن الفن والجمال من وجهة نظر وجودية خالصة >[5] ، وأخرى مسيحية عبر جماليات أدب "فيكتور هوجو" و"دوستويفسكي" >[6] ، كما أنبأنا التاريخ عن رؤية جمالية بخلفية عبثية [ ص: 139 ] واضحة مع "كافكا" و"صمويل بيكيت". وهكذا نسجل أن: "وراء كل مذهب أدبي عرفه الغرب قديما وحديثا مذهب فلسفي يمده بالتصورات والأشكال والمعاني، ويرسم له مصادر الجمال وموازينه؛ فالمذهب الأدبي الكلاسيكي كان وراءه بعض المذاهب الفلسفية اليونانية والرومانية، فاعتمد هذا المذهب تقديس الأقدمين وسيادة العقل على العاطفة، والمذهب الرومانسي قام على أفكار "جان جاك روسو" و"شاتوبريان" وغيرهما، والمذهب الواقعي تأثر بالفلسفة التجريبية وفلسفة "إيمانويل كانت" وغيرهما. ثم توالت المذاهب الأدبية ينقض بعضها بعضا، كما توالت المذاهب الفلسفية معها؛ فجاء المذهب البرناسي >[7] والمذهب الرمزي ومذاهب الحداثة الأخرى، ثم البنيوية والتفكيكية وغير ذلك.

فإذا حق لهـذه المذاهب الفلسفية أن تدفـع مذاهب أدبية وتصوغ لها تصوراتها، فإن الإسلام له الحق الأول في أن يدفع للبشرية أدبا نابعا منه تصورا وفكرا ولغة وجمالا" >[8] .

تأسيسا على ذلك، يمكن القول: إن "علم الجمال الإسلامي" يستمد شرعيته من حق الأمة الإسلامية في أن يكون لها إسهام في بناء المعرفة الإنسانية، وأن يكون لها تـميزها الحضاري الذي تسم به مختلف العلوم والفنون والمعارف، دون أن ننسى قبل هذا وأثناءه وبعده أن: "المعيار [ ص: 140 ] الأساسي في اعتبار العمل الإبداعي فنا هو في قدرته على استثارة وجدان الآخرين، ومن ثم فالفن يستقل بذاته في كونه فنا؛ سواء ارتبط بالأخلاق والدين أم لـم يرتبط بهما. وغاية ما نستطيعه حيال علاقته بهما، هو أن نقبله أو نرفضه، دون أن يحق لنا أن نجرد هذا العمـل من صفتـه الفنيـة بحسب موقفنا الأخلاقي والديني أو الإيدلوجي منه" >[9] .

لكن بعد الاتفاق على سلامة إضافة صفة "الإسلامي" إلى علم الجمال والتسليم بها، يتساءل بعض الباحثين عن هذا العلم: أين هو؟ من هم رواده ؟ ما مصادره وما مظانه لـمن رغب في دراسته ومعرفته؟ وما هي إنتاجاته التي يتميز بها عن غيره؟

أثرنا هذا السؤال سابقا ونعود إليه لنؤكد حقيقة مجمع عليها عند جميع العقلاء، وهي أنه لـم تجر العادة في تاريخ العلوم بالحديث عن علم من العلوم إلا بعد اكتماله ونضجه، ثم ما فائدة التأريخ للعلوم وعودة فلاسفته إلى التاريخ لدراسة جذور هاته العلوم وأنوية تشكلها ونشوئها؟

لذلك فنحن لا نتحدث عن علم جمال إسلامي قائم الذات، مشهور الأعلام، معروف بمصادره ومراجعه البشرية، بقدر ما نتحدث عن إمكانيات هائلة متاحة أمام هذا العلم، تاريخا وحوافز وأطرا نظرية ومعرفية، تـؤهله للانطلاق في عوالـم الإبداع والابتكار، والأداء الراشد، الذي ينشد نشر قيم الحق والخير والجمال، وإشاعتها بين العالـمين. [ ص: 141 ]

في هذا السياق، يأتي هذا البحث إسهاما من صاحبه في التأسيس لعلم جمال إسلامي، يستلهم مبادئه وأسسه من القرآن الكريم، من خلال البحث في الآليات الجمالية التي يـمارس بهـا هذا الكتاب تأثيره البهي والقوي على النفوس والعقول، ونقترح تحقيـقا لذلك المعالـم الآتية، عساها تسهم في التأصيـل لهذا العلم، وتـؤثل مسيره، وتوجه أداءه، وتحفظه من الكبوات والزلات:

التالي السابق


الخدمات العلمية