المعلم الأول: القرآن الكريم هو الأساس، الذي تستمد منه كليات علم الجمال الإسلامي وأصوله:
فالقرآن الكريم: "هو فضاؤنا الروحي الذي من المفروض أن نستمد منه المعنى والقيمة، وسيظل كذلك دوما، ولو تـمكنا من إقامة جمالياته، فإن هذا سيجدد رسالته إلينا نحن المسلمين في هذا العصر بالذات، ذلك أن أول أهداف جماليات على هذه الدرجة من الاستقلال والعمق الروحي أن يكون الحس القرآني - بمعناه الواسع الذي تتماهى فيه القيم المطلقة لتصبح قيمة واحدة تشع بـما هو إلهي وإنساني في أن معا- منهجا للحياة وارتقاء بها، بعيدا عن العقليات التحريـمية التي أفقرت عالـم المسلم لقرون، حتى صار مفهوم "المتعة" عنده يكاد يقتصر على الحسي المبتذل" [1] . [ ص: 142 ]
إن العودة للقرآن الكريم، تأصيلا لعلم الجمال وبحثا عن جذور مؤثلة للممارسة الجمالية الواعية، هو عودة للذات المسلمة التي تريد تجديد صلتها بمصدر الرسالة الخاتمة، والتفاعل معها بشكل إيجابي، عبر الرفع من مستوى تذوقها للجمال، وفهمها واكتشافها لتجلياته في عالـم القرآن والأكوان، لذلك فالحديث عن جمـاليات القرآن الكريم، هو حديث عن الآليات التي بها يصير الحس القرآني منهجا للحياة وارتقاء بها، في مدارج الرقي والحسن والكمال، وبهذا نقطع الطريق - أو بعضه على الأقل - على القراءات الحداثية المعاصرة للقرآن الكريم، التي حالت بين المسلم وتذوق جماليات كتاب الله تعالى، إذ راحت تعمل أدواتها الهرمنوطيقية، لتفكيك بنيات النص القرآني، وتوظف أدوات العلوم الإنسانية على النص المقدس [2] ، فلم تخرج من قراءاتها تلك، إلا بخيبات الأمل، وما يشبه الشطح العلمي المغلف بمفاهيم الهندسة واللسانيات وتقنيات تحليل الخطاب [3] .
إن القراءة الجمالية الصحيحة للقرآن الكريم، من شأنها أن تخفف من حدة هاته القراءات المتفلتة عن ضوابط القراءات العلمية للنص القرآني، على [ ص: 143 ] الأقل بتحجيم مساحة القراء الذين يتابعون هاته القراءات، خضوعا للدعايات الإعلامية الواسعـة لهـاته القراءات، وأحيانا أخرى بدافع الفضول العلمي، أو انبهارا بشخصية صاحب القراءة وشهرته في عالـم الثقافة والفكر.
لذلك نعتقد أن الكشف عن علم الجمال القرآني أضحت ضرورة ملحة لإبعاد الناس عن هذا اللغط والعبث الفكري الذي أذهب جذوة التأسي بجماليات القرآن من نفوس الناس وعقولهم، ونعتقد أن من أهم المفاتيح المساعدة على ذلك، ما دعا إليه الدكتور طه جابر العلواني من ضرورة اكتشاف "منهجية القرآن المعرفية" [4] ، التي يقدمها لنا القرآن المجيد: "في شكل محددات وسن قوانين يمكن استنباطها من استقراء آيات الكتاب الكريم، تلاوة، وتدبرا وترتيلا، وتنـزيلا، وتفكرا، وتعقلا، وتذكرا، ثم التعامل مع هذه المحددات تعاملا يسمح لنا بأن نجعل منها محددات تصديق وهيمنة، وضبط لسائر خطواتنا المعرفية، ومنها: تصحيح مسار المنهج العلمي، وإخراج فلسفة العلوم الطبيعية والاجتماعية من مضايق النهايات التي تتوقف عندها الآن. وفي مقدمة هذه المحددات "الجمع بين القراءتين" و"الوحدة البنائية للقرآن" [5] . [ ص: 144 ]
لقد صارت الدعوة إلى "الجمع بين القراءتين" و"الوحدة البنائية للقرآن" لصيقة باسم الدكتور العلواني في المحافل الفكرية والثقافية، وهو يقصد بفكرة الجمع بين القراءتين: قراءة الـمسطور وقراءة المنظور (قراءة القرآن وقراءة الكون)، كما يرى أنه لا يمكن فهم القرآن الكريم ومعرفة مراميه دون الجمع بين هاتين القراءتين، فمن "تجاوز القراءة الأولى في الوحي النازل إلى النبيين، واستغرق استغراقا كليا في القراءة الثانية التي تمثل علم الكون أو معارف الطبيعة منقطعة عن الله، فقد العلاقة بالله وتجاهل الغيب وانطلق بفلسفة إنسانية مستقلة وضعية منبتة عن الله، عوراء قاصرة في مصادرها، وتحاول أن توحد بين الإنسان والطبيعة بإطلاق، وتعد الخالق والغيب كله مجرد ما ورائيات أو ميتافيزيقيا يمكن تجاهلها أو تجاوزها" [6] .
أما الوحدة البنائية للقرآن الكريم، فالمقصود منها أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، وبالتالي لا يجوز النظر فيه بشكل مجتزأ، بل يجب مراعاة الوحدة البنائية فيه، وأن ترد معاني الآيات بعضها إلى بعضها الآخر، تحاشيا للفهم المجتزأ الذي لا يعبر عن المعاني المطلوبة منها حقيقة.
نخلص من هذا العرض المركز والسريع لرؤية العلواني المعرفية، إلى أن الكشف عن علم الجمـال القرآني باعتباره علما يهدف إلى تجلية آليات التأثير الجمالي للقرآن الكريم في النفس البشرية، لا يمكن أن تتحقق بعيدا عن [ ص: 145 ] "منهجية القرآن المعرفية" تلاوة، وتدبرا وترتيلا، وتنـزيلا، وتفكرا، وتعقلا، وتذكرا، من خلال تصحيـح مسـار الدراسات والأبحاث الجمـالية، التي تتخـذ من القرآن الكريـم موضـوعا لها، وإخراج فلسفة الجمال الإسلامية من الضيق المعرفي الذي يعيق تطورها، ويكبح انطلاقتها المحررة للأفهام السقيمة التي عطلت الذوق الجمالي للمسلم، فجعلته وهو يسعى لبناء تجربته الجمالية القرآنية، غير قـادر على الجمع بين القراءتين، وغير متسلح بالشروط المعرفية التي تؤهله للنظر للقرآن الكريم مستحضرا وحدته البنائية الشاملة.