1- الخصوصية الذاتية:
ويقصـد بهـا تلك الصفة، التي تميز حضارة ما عن غيرها من الحضارات الأخرى، التي تلتقي معهـا في الزمان وتختلف عنها في أمور عديدة كخصـائص الشعـب وطبيعة المـكان، وعلى نحو يسمـح بالحـديث عن التنوع الحضاري. فوجود حضارات متنوعة، يعني أن لكل منها سمات ذاتية تعبر عن خصوصيتها. فمن المعروف أن الحضارة تنفرد بثقافتها وتاريخها وتقاليدها ومعتقداتها الدينية وفي أشكال التطور المختلفة، وعلى نحو يسمح بملاحظة وجود فوارق أساسية وحقيقية تقع ضمن الخصوصية الحضارية.
وتشير دراسة التاريخ الإنساني إلى أن لكل واحدة من الحضارات، التي ظهرت في العصور المختلفة دورا خاصا، كان عليها أن تؤديه في ظل
[ ص: 72 ] الأوضاع العالمية والإنسانية، التي كانت سائدة في حينه، ثم تجد نفسها مضطرة للتـراجع لتأتي بعد ذلك حضارة أخرى تسير في الطريق نفسه
>[1] . والأمثلة على ذلك عديدة في مختلف العصور.
ففـي العصـور القديـمـة، على سبيل المثال، بدت خصوصية الحضارة المصرية في قدرة المصريين على التعبير عن واقعهم. وبدا ذلك واضحـا في الكـم الهـائل من المعـابد والمـقابر والأهـرامات وغـير ذلك. وبدت خصـوصية الحضـارة العـراقية في قـوانين حمـورابي، والمواقـع الأثرية البارزة في معبد أور وبوابـات بابل وملوية سامراء. وبرزت الحضارة اليونانية في الميـل إلى التأمـل والفلسفة
>[2] . وتميزت الحضارة الفارسية بنظام للري عرفته مدينة شوشتر جنوب إيران، لايزال يعمـل بـكفاءة منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة
>[3] . بينما تميزت الحضارة الصينية بسورها العظيم، الذي حمى الصينيين من غزوات قبائل الهون البدوية
>[4] . ولا يختلف الأمر بالنسبة للحضارة الهندية المعروفة بطرقها التجارية وتنوعها الثقافي ومعالمها الفريدة مثل تاج محل.
[ ص: 73 ]
وفي العصـور الوسـطى، حيث الحضارة العربية الإسلامية، برز الاهتمام بالفلسفـة والأدب والعلـوم كعلم الاجتمـاع والتأريخ وعلوم الأرض والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء والهندسة والطب والصيدلة. ومن الفلاسفـة والعلـماء المشهورين: ابن سينا، وابن رشد، وابن طفيل، وابن خلدون، وابن بطوطة، والإدريسي، وابن الهيثم، والقرطبي، والرازي، وابن البيطار. وكانت لهم أبحاثهم المهمة في هذه العلوم وغيرها، ووضعوا مئات المؤلفات العلمية. وفي عهود الازدهار تقدمت الزراعة بفضل تقدم وسائل الري ومعرفة خواص التربة وأنواع السماد، وظهرت صناعات متقدمة كصناعة الورق والفخار والفسيفساء، والزجاج والبارود والمنسوجات وغيرها
>[5] . واليوم أصبح التأكيد على الخصوصية الذاتية مطلبا ذا أولوية بالنسبة لكل الأمم، وبذلت الجهود لدعم الثقافة الوطنية وإعلاء شأنها. ويبدو اليوم وفي كل مكان أن الذاتية الثقافية أضحت تطرح كإحدى القوى الدافعة لحركة الشعوب، وإن حماية الخصوصية تعد عملا لابد منه لإبراز قدرات الأمة الإبداعية.
[ ص: 74 ]