3- تصور (الذات) و (الآخر):
يعد تصور أية مجموعة حضارية لذاتها ولغيرها من المجموعات الحضارية الأخرى عاملا أساسا في تحديد مسار التفاعل الحضاري. فتصور إحداها للأخرى، على أنها صديقة أو عدوة، يدفعها لتبني موقف ودي إزاءها في الحالة الأولى أو عدائي في الحالة الثانية. وهذا يعني أن التصور لـ(الذات) هو أحد محددات التصور لـ(الآخر)، فتضخيم (الذات) يستتبعه عادة تقزيم (الآخر)، والتصور الاستعلائي لـ(الذات) بدعوى التفوق غالبا ما يؤدي إلى تصور دوني لـ(الآخر).
ورغم أن العلاقة بين الحضارات ترتبط عموما بتصور كل واحدة منها لذاتها وللحضارات الأخرى، على أساس ثنائية حادة واستقطاب متطرف بين الأنا والآخر، فإنه تبرز في هذا المجال ثنائية الإسلام والغرب. وقد ظهر هذا واضحا في تسعينيات القرن الماضي، أي بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث أصبحت العلاقة بين الطرفين تشغل موقعا محوريا في الجدل الدائر،
[ ص: 96 ] ليس فقط بين الأوساط السياسية والفكرية الغربية، وإنما أيضا بين الأوساط العربية والإسلامية على اختلاف اتجاهاتها الفكرية.
فإذا نظرنا إلى الغربيين، نجد بعضهم يتحدث عن تميزهم عن غيرهم من الكيانات القارية الأخرى، بثماني سمات فارقة وهي: اللغات الأوروبية، والتراث الكلاسيكي من الإغريق والرومان، والمسيحية الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية، والفصل بين السلطتين الروحية والزمنية، أو بين الدين والدولة، والتعددية الاجتماعية والمجتمع المدني ، وحكم القانون، والهيئات التمثيلية، والنزعة الفردية
>[1] .
وهذه السمات، هي من وجهة نظر "هنتنجتون Huntington" محورية وحاضرة في المجتمع الغربي، وتفاعلها هو الذي يعطى له خاصيته المميزة، ويمكنه من امتلاك زمام المبادرة في تحديث نفسه، ويظهر عبقرية الحضارة الغربية وتفردها، وقدرتها على الإبداع. وستظل الحضارة الغربية أقوى الحضـارات في العقـود الأولـى من القرن الواحـد والعشرين، وربما استمرت لها الصدارة لفترة طويلة في إمكانيات البحث والتطوير والإبداع التكنولوجي، المدني والعسكري
>[2] .
ويقدم الغربيون الحضارات الأخرى على أنها هي الأدنى، ومن ضمنها الحضارة الإسلامية، وأنها ستظل كذلك رغم محاولات النهوض. فحركات
[ ص: 97 ] الإحياء الديني معادية للعلمانية وللعالمية، ومعادية للتغريب
>[3] ، وبذلك يظهر في هذه النظرة التعصب الأعمى والعنصرية بأبعادها النازية والصهيونية.
أما الشرقيون، وبخاصة المسلمين، فإنهم يتحدثون عن الحضارة الإسلامية، التي قامت على أساس التفاعل الإيجابي، حيث أخذت عن الحضارات التي سبقتها، وصهرت كل ذلك في بوتقة الإسلام
>[4] ، فكانت بذلك حضارة إنسانية ذات بعد عالمي، ومنهجها التسامح والسلام، باعتبارهما الأصل في العـلاقات بين الأمم والشعوب. وتراجع هذه الحضارة لا يعني إخراج الشعوب الإسلامية من دائرة الأمم المتحضرة.
وهم يرون أن نهضة الغرب وحضارته قامت على استعمار الآخرين اقتصاديا في المقام الأول، ثم عسكريا، وأخيرا ثقافيا. فكانت أفواج القادمين إلى الشرق المستعمر تتمثل في الشركات أولا، ثم الإدارة المدنية والجنود ثانيا، والتعليم والتبشير ثالثا، والإعلام رابعا وأخيرا
>[5] . فالغرب بهذا التحديد تحرك بصورة عدوانية، ونهب ثروات الشعوب الأخرى، وسيطر عليها، وحاول أن يغسل أدمغتها.
[ ص: 98 ]