الفصل الأول
السياق ومعالجة اللبس
لقد بينا في الباب الأول أن علماء اللسان العربي قد اعتنوا كثيرا بإشكالات علاقة اللفظ بالمعنى، وتغيراتها حسب الوضع والاستعمال، وحسب الإفراد والتركيب..
ونشير هنا إلى أن عنايتهم بظاهرة "دوران المعنى بين اللبس والبيان"، كانت أكبر بكثير، فأسسوا لدراسة "المعاني" علما مستقلا حمل اسمها، ركزوا فيه على تحديد المعاني المختلفة التي تؤدى بالأداة الواحدة، والأدوات المختلفة التي تؤدي المعنى الواحد، وأسسوا "للبيان" علما مستقلا حمل اسمه، ركزوا فيه على سبل الإفصاح عن المعنى الواحد بطرق متباينة.
ولئن لم يظهر في تراثهم علم يحمل اسم "اللبس" ثالث تلك المصطلحات أو يختص بمعالجته وإن حمل اسما آخر، فإنهم إنما استغنوا عن ذلك بالإحالة على الذوق والسياق.
ذلك أن "اللبس" هو بحق موضوع آلية السياق واختصاصها، والمتتبع لمناقشات الأقدمين واستدلالاتهم وتقعيداهم يجد أنهم لا يرجعون إلى السياق إلا لأمر يتعلق باللبس بوجه ما. [ ص: 112 ]
واللبس عندهم عبارة جامعة لكل صنوف الإشكال والإجمال والتردد بين الإطلاق والتقييد، وبين العموم والخصوص، وبين الحقيقة والمجاز.. وغيرها من مثارات التأمل وبواعث النظر عند الأصوليين كما عند اللغويين.
وقد حاولنا أن نحصر الوجوه التي يفيد فيها السياق في معالجة اللبس عندهم، فانتهينا إلى حصرها في عشر زوايا، يعبرون عن كل زاوية منها بضميمة يشيع استخدامها عندهم بلفظها أو بمعناها، في كل العصور وفي كل التخصصات، بدءا بحصول اللبس، فانتفاء اللبس، فقصد اللبس، فأمن اللبس، فخوف اللبس، فدفع اللبس، فدعوى اللبس، فنفي اللبس، أو فرفع اللبس أو بقائه.
وتتعلق الأوليان بأصل "الوضع"، ويختص "المتكلم" بالأربعة التالية لهـمـا، وتتـعـلـق تاليـتـاهـا بـ"الناظر"، ويـخـتـص "المناظر" بالأخريين. وهذا ما نفصله -بحول الله وقوته- في ثنايا مباحث هذا الفصل. [ ص: 113 ]
التالي
السابق