المبحث الثالث
اللبس في قصد التفهم عند الناظر
لقد درج الأصوليون في تقعيدهم لمراتب النظر إلى دلالة الخطاب على تقسيمها إلى ثلاث، هي؛ الوضع والاستعمال والحمل، كما يوضح القرافي (ت684هـ)، بقوله: "الفصل الثالث: الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل؛ (...) فالوضع؛ (...) جعل اللفظ دليلا على المعنى (...) والاستعمال؛ إطلاق اللفظ وإرادة عين مسماه بالحكم وهو الحقيقة، أو غير مسماه لعلاقة بينهما وهـو المـجـاز. والحمل؛ اعـتـقـاد السـامـع مـراد الـمـتـكلـم من لفـظـه أو ما اشتمل على مراده" [1] ، ولكنهم قد يذكرون "الناظر" و"المناظر"، كما في عنوان كتاب ابن قدامة (ت620هـ): "روضة الناظر وجنة المناظر"، وكما في قول ابن دقيق العيد (ت702هـ) في دلالة السياق: "وهي قاعدة متعـينـة عـلى "الناظر"، وإن كانـت ذات شعـب عـلى "المناظر"" [2] [ ص: 128 ] ، أو يذكرون "النظر" و"المناظرة"، كما في قول الزركشي (ت794هـ) عن دلالة السياق دائما: "فمن أهمله غلط في "نظره"، وغالط في "مناظراته"" [3] .
وجمعا بين هذا وذاك، ورعيا لمقتضيات التفصيل آثرت -هنا- استبدال مصطلحي الحمل والسامع بفصليهما؛ النظر والمناظرة بدل "الحمل"، والناظر والمناظر بدل "السامع".
فتصبح المراتب أربعة، هي: الوضع بالنسبة للواضع وقصده فيه "الدلالة" باللفظ على المعنى، والاستعمال بالنسبة للمتكلم وقصده فيه "إفهام" مراده من اللفظ، والنظر بالنسبة للناظر وقصده فيه "تفهم" مراد المتكلم من كلامه، والمناظرة بالنسبة للمناظر وقصده فيها "تفهيم" مراد المتكلم لمن يراه غلط فيه ناظرا أو مناظرا.
وعلى هذا جرى تفصيل اللبس من بداية الفصل، وإنما احتجنا إلى بيانه الآن عند الوصول إلى مستوى السامع و"حمله" للخطاب على ما يعتقده مرادا للمتكلم على سبيل "النظر" في هذا المبحث، وعلى سبيل "المناظرة" في المبحث الموالي.
فنقول: إن الناظر إما أن يقف على "قصد المتكلم" بما لا يبقي عنده شكا فيه، وهذا هو: "نفي اللبس"، وإما أن يعتبر أن فيه لبسا، وهذا هو: "دعوى اللبس". [ ص: 129 ]
فـ "دعوى اللبس" إذا هي: "زعم الناظر حصول لبس في قصد المتكلم"، سلم له ذلك أو لم يسلم له. وأما "نفي اللبس" فهو: "زعم الناظر "انتفاء اللبس" في قصد المتكلم"، وليس هو بالضرورة "انتفاء اللبس" الذي هو: "صفة ذاتية للفظ بمقتضى الوضع قبل الاستعمال"، فـ"الانتفاء" نتيجة لأصل الوضع، و"النفي" ثمرة لجهد الناظر.
ونجمل جوالب اللبس عند الناظر في أربعة أسباب؛
أولها: طبيعة الناظر ومنهجه في النظر؛ فقد يتفاوت إدراك ناظرين لخطاب واحد تفاوتا كبيرا، فيصل أحدهما من خلاله إلى قصد المتكلم به دون الآخر، ويرجع ابن القيم (ت751هـ) ذلك: "لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها" [4] ، ويبين مقصوده في موضع آخر فيقول: "والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص؛ وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه، ودون إيمائه، وإشارته، وتنبيهه، واعتباره" [5] ، مشيرا بذلك إلى اختلاف مناهج النظر وتفاوتها. [ ص: 130 ]
وثانيها: طبيعة الخـطاب؛ وما يتضمنه مـما ذكرنا من جـوالب اللـبـس في أصل الدلالة عند الواضع، وفي قصد الإفهام عند المتكلم، وهو ما يشـير إليه العز بن عبد السلام بقوله: "قد يتردد المعنى بين محامل كثيرة يتساوى بعضها مع بعض، ويترجح بعضها على بعض" [6] ، بل قد يناقض بعضها بعضا كما يقول السرخسي (ت483هـ): "الكلام الواحد قد يكون مدحا، وقد يكون ذما، وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بالمقدمة، ودلالة الحال، فإن لم تعتبر دلالة الحال لا يتميز المدح من الذم" [7] .
وثالثها: جهل الناظر ببعض القرائن الحالية المتعلقة بمناسبة الخطاب؛ وهو ما يشير إليه الشاطبي (ت790هـ) بقوله: "وليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه" [8] .
ورابعها: النظر التجـزيئي؛ وهو النظر في نفس الخطاب معزولا عن نسقـه، وإغـفال النـصوص المكملة أو المساندة له والتي لا يمكن فهمه مستقـلا عـنـهـا، بل ربـمـا النـظر في بعـض أجـزاء الخـطاب معـزولـة [ ص: 131 ] عن سوابقها ولواحقها من الخطاب نفسه، وهذا ما يشير إليه الشاطبي (ت790هـ) بقـولـه: "فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض" [9] ، وإلى الصورة الأولى يشير ابن حزم (ت456هـ) بقوله: "والحديث والقرآن كله كلفظة واحدة، فلا يحكم بآية دون أخرى، ولا بحديث دون آخر، بل يضم كل ذلك بعضه إلى بعض، إذ ليس بعض ذلك أولى بالاتباع من بعض، ومن فعل غير هذا فقد تحكم بلا دليل" [10] .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن جوالب اللبس عند السامع يستوي فيها الناظر والمناظر، فنكتفي بذكرها هنا عن إعادتها عند قصد التفهيم. [ ص: 132 ]