ثم هو نوعان طلاق سنة وطلاق بدعة
والسنة في الطلاق نوعان سنة من حيث العدد وسنة من حيث الوقت فالسنة من حيث العدد ما بدأ ببيانه الكتاب ، وهو نوعان حسن وأحسن فالأحسن أن يطلقها واحدة في وقت السنة ، ويدعها حتى تنقضي عدتها .
هكذا نقل عن
إبراهيم رحمه الله تعالى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كانوا يستحسنون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة وأن هذا أفضل عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا عند كل طهر واحدة ولأنه مبغض شرعا لكنه مباح لمقصود التفصي عن عهدة النكاح وذلك يحصل بالواحدة ولا يرتفع بها الحل الذي هو
[ ص: 4 ] نعمة فالاقتصار عليها أحسن والحسن أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار عند كل طهر واحدة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك رحمه الله تعالى : لا أعرف المباح من الطلاق إلا واحدة ، والدليل على صحة ما قلنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=showalam&ids=12لابن عمر رضي الله عنه : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=80302إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل طهر تطليقة فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء } . يريد به الإشارة إلى قوله تعالى {
فطلقوهن لعدتهن } .
ولما قابل الله تعالى الطلاق بالعدة ، والطلاق ذو عدد والعدة ذات عدد تنقسم آحاد أحدهما على الآخر كقول القائل أعط هؤلاء الرجال الثلاثة ثلاثة دراهم ولأن عدم موافقة الأخلاق أمر باطن لا يوقف على حقيقته فأقام الشرع السبب الظاهر الدال عليه ، وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه مقام حقيقة الحاجة لعدم موافقة الأخلاق لأنه زمان الرغبة فيها طبعا وشرعا فلا يختار فراقها إلا للحاجة ومتى قام السبب الظاهر مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجودا وعدما .
وهذا السبب الظاهر متكرر فتتكرر إباحة الطلاق بتكرره ويجعل ذلك قائم مقام تجدد الحاجة حكما وإليه أشار
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه فقال إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته للسنة طلقها تطليقة وهي طاهرة من غير جماع فإذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها بعد ما تحيض وتطهر ثم يدعها حتى تحيض وتطهر ثم يطلقها أخرى فكانت قد بانت منه بثلاث تطليقات وبقي عليها من عدتها حيضة .
وعلى هذا الأصل قال علماؤنا رحمهم الله إيقاع الثلاث جملة بدعة وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله تعالى لا أعرف في الجمع بدعة ولا في التفريق سنة بل الكل مباح وربما يقول إيقاع الثلاث جملة سنة حتى إذا
قال لامرأته أنت طالق ثلاثا للسنة وقع الكل في الحال عنده قال وبالاتفاق لو نوى وقوع الثلاث جملة يقع جملة ولو لم يكن سنة لما عملت نيته لأن النية بخلاف الملفوظ باطل واستدل في ذلك بحديث {
nindex.php?page=hadith&LINKID=80303العجلاني فإنه لما لاعن امرأته قال كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الثلاث جملة } وقالت
nindex.php?page=showalam&ids=11129فاطمة بنت قيس طلقني زوجي ثلاثا الحديث إلى أن قالت {
nindex.php?page=hadith&LINKID=80304فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى }
nindex.php?page=showalam&ids=38وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق امرأته
تماضر رضي الله عنها ثلاثا في مرض موته
nindex.php?page=showalam&ids=35والحسن بن علي رضي الله عنهما طلق امرأته
شهباء رضي الله عنها ثلاثا حين هنأته بالخلافة بعد موت
nindex.php?page=showalam&ids=8علي . رضي الله عنه
والمعنى فيه أن إزالة الملك بطريق الإسقاط فيكون مباحا مطلقا جمع أو
[ ص: 5 ] فرق كالعتق والدليل عليه أنه لو طلق أربع نسوة له جملة كان مباحا بمنزلة ما لو فرق فكذلك في حق الواحدة بل أولى لأن هذا يزيل الملك عن امرأة واحدة وهناك الإيقاع يزيل الملك عن أربع نسوة ولأن الطلاق تصرف مملوك بالنكاح فيكون مباحا في الأصل والتحريم فيه لمعنى عارض كالظهار الذي انضم إليه وصف كونه منكرا من القول وزورا والإيلاء الذي انضم إليه معنى قطع الإمساك بالمعروف على وجه الإضرار والتعنت فكذلك الطلاق مباح الإيقاع إلا إذا انضم إليه معنى محرم وهو الإضرار بها بتطويل العدة عليها إذا طلقها في حالة الحيض .
وتلبيس أمر العدة عليها إذا طلقها في طهر قد جامعها فيه لأنها لا تدري أنها حامل فتعتد بوضع الحمل أو حائل فتعتد بالأقراء وذلك منعدم إذا طلقها في طهر لم يجامعها فيه سواء أوقع الثلاث أو الواحدة وهو معنى قولهم هذا طلاق صادف زمان الاحتساب مع زوال الارتياب وحجتنا في ذلك قوله تعالى {
الطلاق مرتان } معناه دفعتان كقوله أعطيته مرتين وضربته مرتين والألف واللام للجنس فيقتضي أن يكون كل الطلاق المباح في دفعتين ودفعة ثالثة في قوله تعالى {
فإن طلقها } أو في قوله عز وجل {
أو تسريح بإحسان } على حسب ما اختلف فيه أهل التفسير .
وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=17053محمود بن لبيد رحمه الله تعالى {
nindex.php?page=hadith&LINKID=80305أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا فقال أتلعبون بكتاب الله تعالى وأنا بين أظهركم } واللعب بكتاب الله ترك العمل به فدل أن موقع الثلاث جملة مخالف للعمل بما في الكتاب وأن المراد من قوله {
فطلقوهن لعدتهن } تفريق الطلقات على عدد أقراء العدة ألا ترى أنه خاطب الزوج بالأمر بإحصاء العدة وفائدته التفريق فإنه قال {
لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } أي يبدو له فيراجعها وذلك عند التفريق لا عند الجمع ، وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت رضي الله عنه {
أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن أبانا طلق امرأته ألفا فقال صلى الله عليه وسلم بانت امرأته بثلاث في معصية الله تعالى وبقي تسعمائة وسبعة وتسعين وزرا في عنقه إلى يوم القيامة } {
وأن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله تعالى عنه لما طلق امرأته في حالة الحيض أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها فقال أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي فقال صلى الله عليه وسلم لا بانت منك } وهي معصية .
وبهذه الآثار تبين أنه إنما ترك الإنكار على
العجلاني في ذلك الوقت شفقة عليه لعلمه أنه لشدة الغضب ربما لا يقبل قوله فيكفر فأخر الإنكار إلى وقت آخر وأنكر عليه في قوله {
nindex.php?page=hadith&LINKID=80308اذهب [ ص: 6 ] فلا سبيل لك عليها } أو كراهة إيقاع الثلاث لما فيه من سد باب التلافي من غير حاجة وذلك غير موجود في حق
العجلاني لأن باب التلافي بين المتلاعنين منسد ما داما مصرين على اللعان
والعجلاني كان مصرا على اللعان ولنا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة nindex.php?page=showalam&ids=40وعمران بن حصين رضي الله تعالى عنهم كراهة
إيقاع الطلاق الثلاث بألفاظ مختلفة وعن
nindex.php?page=showalam&ids=60أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال لو أن الناس طلقوا نساءهم كما أمروا لما فارق الرجل امرأته وله إليها حاجة إن أحدكم يذهب فيطلق امرأته ثلاثا ثم يقعد فيعصر عينيه مهلا مهلا بارك الله عليكم فيكم كتاب الله وسنة رسوله فماذا بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا الضلال ورب
الكعبة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15071الكرخي لا أعرف بين أهل العلم خلافا إن إيقاع الثلاث جملة مكروه إلا قول
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين وأن قوله ليس بحجة ويتبين بهذا أن
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه إنما طلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار وأن
nindex.php?page=showalam&ids=35الحسن رضي الله تعالى عنه إنما قال
لشهباء أنت طالق ثلاثا للسنة وعندنا لا بأس به والمعنى فيه أنه تحريم البضع بمجرد قوله من غير حاجة فيكون مكروها كالظهار بل أولى فإن الظهار تحريم البضع بمجرد قوله من غير إزالة الملك ، وفي إيقاع الثلاث تحريم البضع مع إزالة الملك والفقه فيه ما بينا أن إباحة الإيقاع للحاجة إلى التفصي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق وذلك يحصل بالواحدة ولا يحصل بها تحريم البضع فلا تتحقق الحاجة إلى ما يكون محرما للبضع فكان ينبغي أن لا يباح أصلا .
ولكن أبيح عند اختلاف الأطهار لتجدد الحاجة حكما على ما قررنا ولأن في إيقاع الثلاث قطع باب التلافي وتفويت التدارك عند الندم ، وفيه معنى معارضة الشرع فالإسقاطات في الأصل لا تتعدد كالعتاق وغيره وإنما جعل الشرع الطلاق متعددا لمعنى التدارك عند الندم فلا يحل له تفويت هذا المعنى في نفسه بعد ما نظر الشرع له كما لا يباح له الإيقاع في حالة الحيض لأنه حالة نفرة الطبع عنها وكونه ممنوعا شرعا فالظاهر أنه يندم إذا جاء زمان الطهر فيكره إيقاع الطلاق لمعنى خوف الندم فهذا مثله والدليل عليه أنه لو طلقها واحدة في الطهر ثم أخرى في الحيض يكون مكروها وليس في إيقاع الثانية في الحيض معنى تطويل العدة ولا معنى اشتباه أمر العدة عليها فدل أن معنى كراهة الإيقاع لمعنى خوف الندم إذا جاء زمان الطهر وهذا في إيقاع الثلاث أظهر فكان مكروها ويستوي في هذا المدخول بها
[ ص: 7 ] وغير المدخول بها لأن معنى تحريم البضع بإيقاع الثلاث يحصل في الحالتين بصفة واحدة .
وكذلك يستوي في الكراهة إيقاع الثلاث جملة وإيقاع الثنتين لأن الكراهة لمعنى عدم الحاجة حقيقة وحكما ، وهو موجود في الثانية كوجوده في الثالثة ولأن إيقاع الثنتين وإن كان لا يحصل به تحريم البضع فإنه يقرب منه وهذا القرب معتبر في الحكم ألا ترى أن المرأة إذا قالت لزوجها طلقني ثلاثا بألف وطلقها واحدة يجب ثلث الألف ولو طلقها اثنتين يجب ثلثا الألف وكما أن سد باب التلافي حرام من غير حاجة فكذلك ما يقرب منه يكون حراما .