باب المشيئة في الطلاق
( قال ) فذلك إليها مادام في مجلسها لأنه علق الوقوع بمشيئتها وذلك من عمل قلبها بمنزلة اختيارها وقد اتفقت الصحابة رضوان الله عليهم [ ص: 197 ] أن للمخيرة الخيار مادام في مجلسها فكذلك يثبت هذا الحكم فيما هو في معناه وهو المشيئة وهذا لأن الرأي الذي يوجبه الزوج لها معتبر بما يثبت لها من الخيار شرعا وهو خيار المعتقة وذلك يتوقت بمجلسها غير أنها إن شاءت هنا فهي طالق تطليقة رجعية لأن الوقوع بلفظ الزوج وقد أتى بصريح الطلاق وإن قامت قبل أن تشاء فهي امرأته ولا مشيئة لها بعد ذلك لانقطاع مجلسها بالقيام أو لوجود دليل الإعراض عما فوض إليها من المشيئة وكذلك إن أخذت في عمل آخر يعرف أنه قطع لما كانا فيه من ذكر الطلاق لأن الإعراض عن المشيئة يتحقق باشتغالها بعمل آخر كما يتحقق بقيامها ، وقيام الزوج من ذلك المجلس لا يبطل مشيئتها ; لأن قيامه دليل الرجوع فيكون كصريح الرجوع ولو رجع عما قال كان رجوعه باطلا بخلاف قيامها فإنه دليل الرد ولو ردت المشيئة صح منها وبه فارق البيع فإن الموجب لو قام عن المجلس قبل قبول الآخر يبطل إيجابه فكذلك يبطل بقيامه ، وكذلك لو رجل قال لامرأته إن شئت فأنت طالق ; لأن هذه الألفاظ في المعنى تتقارب فإنه تعليق للوقوع باختيارها ولأن هذه المعاني لا تفارقها كمشيئتها فيتحقق منها في المجلس ولو قال إن أحببت أو هويت أو رضيت أو أردت فأنت طالق فهو كذلك إلا أن هنا ما لم تقل طلقت نفسي لا يقع ; لأن قوله طلقي نفسك تمليك الأمر منها وقد علقه بالمشيئة فإذا قالت شئت صار الأمر في يدها لوجود الشرط فلا يقع ما لم توقع ، وهناك قوله أنت طالق إيقاع وقد علقه بالمشيئة فإذا قالت شئت يتنجز قال طلقي نفسك إن شئت أو أحببت أو هويت أو رضيت أو أردت
. وإن فذلك إليها في المجلس والقول فيه قولها استحسانا وفي القياس لا يقبل قولها إذا أنكره الزوج ; لأنها تدعي شرط الطلاق وذلك منها كدعوى نفس الطلاق ولكنه استحسن فقال لا طريق لنا إلى معرفة هذا الشرط إلا من جهتها فلا بد من قبول قولها فيه ; لأن الحجة بحسب الممكن في كل فصل ولما علق الزوج الطلاق بما في قلبها مع علمه أنه لا يعرف ذلك إلا بقولها صار الطلاق معلقا بإخبارها فكأنه قال إن أخبرتني أنك تحبينني وقد أخبرت بذلك فإنما أقمنا نفس الخبر مقام حقيقة ما في قلبها للتيسير استحسانا لهذا وإنما توقت بالمجلس ; لأن إخبارها يتحقق في المجلس كمشيئتها واختيارها ولو قال إن كنت تحبينني أو تبغضينني فأنت طالق أو ما أشبه هذا من الكلام الذي لا يطلع على ما في قبلها غيرها فذلك بمنزلة المشيئة لها ذلك مادام في المجلس ; لأنه تمليك للإيقاع منها . قال لها طلقي نفسك ولم يذكر فيه مشيئة
وجواب التمليك يقتصر على المجلس بخلاف ما لو [ ص: 198 ] فإن ذلك توكيل والتوكيل لا يتوقف بالمجلس وفي جانبها ليس بتوكيل فإنها لا تكون وكيلا ولا رسولا في الإيقاع على نفسها فبقي تمليكا للأمر منها فإن قال لأجنبي طلق امرأتي فهي طالق ثلاثا ; لأن قوله طلقي نفسك تفويض ولهذا جعلناه تمليكا للأمر منها على معنى أنه فوض إليها ما كان إليه والتفويض يحتمل معنى العموم والخصوص فنية الثلاث فيه نية العموم وبعد ما صارت الثلاث مفوضة إليها يكون إيقاعها الثلاث كإيقاع الزوج ولو قال أردت واحدة لم يقع عليها شيء في قول طلقت نفسها ثلاثا وقال الزوج أردت ثلاثا أبي حنيفة وعندهما يقع عليها واحدة ، وكذلك لو لم يقع شيء في قول قال طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا رحمه الله تعالى أبي حنيفة وعندهما يقع عليها واحدة وإن وقع ذلك بالاتفاق هما يقولان أوقعت ما فوض إليها وزادت على ذلك ; لأن الواحدة موجودة في الثلاث فهو كما لو قالت طلقت نفسي واحدة وواحدة وواحدة وكما قال لها طلقي نفسك فطلقت نفسها وضرتها وكما قال لعبده أعتق نفسك فأعتق نفسه وصاحبه أو قال لأجنبي بع عبدي هذا فباعه مع عبد آخر والدليل على وجود الواحدة في الثلاث أن الثلاث آحاد مجتمعة . قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة أو اثنتين
ألا ترى أنه لو قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة يقع وإنما يصح إيقاعها إذا كان ما أوقعت موجودا فيما فوض إليها توضيحه أنه لو يقع عليها تطليقة رجعية وبما زادت من صفة البينونة لا تنعدم الموافقة في أصل الطلاق فكذلك إذا أوقعت الثلاث ; لأن موجب الثلاث البينونة الغليظة قال لها طلقي نفسك فقالت أبنت نفسي رحمه الله تعالى يقول أتت بغير ما فوض إليها فكانت مبتدئة فيتوقف إيقاعها على إجازة الزوج كما لو قال لها طلقي نفسك فطلقت ضرتها وبيان الوصف أن الثلاث غير الواحدة وقد قررنا هذا في مسألة الشهادة فيما سبق بخلاف ما لو قالت واحدة وواحدة وواحدة ; لأنها بالكلام الأول تكون ممتثلة لما فوض وفي الكلام بالثانية والثالثة تكون مبتدئة وكذلك إن أوقعت على نفسها وضرتها . وأبو حنيفة
( فإن قيل ) فكذلك هنا بقولها طلقت نفسي تكون ممتثلة لو اقتصرت عليه فإنما تكون مبتدئة في قولها ثلاثا فتلغو هذه الزيادة . ( قلنا ) الطلاق متى قرن بالعدد فالوقوع بالعدد لا بلفظ الطلاق ولهذا لو تطلق ثلاثا ولو قال لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثا لم يقع شيء فإذا كانت مبتدئة في كلمة الإيقاع لم يقع عليها شيء بدون إجازته وبه فارق صفة البينونة ; لأن قولها [ ص: 199 ] أبنت نفسي أي طلقت نفسي تطليقة بائنة وأصل الطلاق إنما يقع بقولها طلقت نفسي لا بذكر صفة البينونة وهي في ذلك ممتثلة أمره وهذا بخلاف ما لو قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة ; لأن الثلاث غير الواحدة ولكن من ضرورة صيرورة الأمر في يدها في الثلاث وقوع الواحدة بإيقاعها فإنها بعض ما صار مملوكا لها فإنما ينفذ باعتبار أنها تصرفت فيما ملكت وهنا إنما صارت الواحدة في يدها وليس من ضرورته صيرورة الثلاث في يدها فهي في إيقاع الثلاث غير متصرفة فيما تملك ولا ممتثلة أمره ، توضيحه أن المخاطب متى زاد على حرف الجواب كان مبتدئا كما لو قال تعال تغد معي فقال إن تغديت اليوم فعبده كذا كان مبتدئا حتى لو رجع إلى بيته فتغدى حنث ; لأنه زاد على حرف الجواب ومتى نقص لا يكون مبتدئا والمخاطبة بالواحدة إذا أوقعت الثلاث فقد زادت على حرف الجواب والمخاطبة بالثلاث إذا أوقعت الواحدة لم تزد على حرف الجواب فلهذا افترقا ، يقرره أنه إذا فوض الثلاث إليها فأوقعت واحدة فهي تقدر على إيقاع الثانية والثالثة في المجلس ولو فعلت كانت ممتثلة لا محالة فبتركها إيقاع الثانية والثالثة لا تخرج من أن تكون ممتثلة في الأولى بخلاف ما إذا أوقعت الثلاث وقد أمرها بالواحدة ; لأن هناك لا تقدر على الامتثال بعد هذا لاشتغالها بغير ما أمرها به . مات بعد قوله طالق قبل قوله ثلاثا