( رجل ) مات وترك ابنتين وابن ابن وبنت ابن ، وترك ابنا مفقودا ، وترك مالا في يد الابنتين فارتفعوا إلى القاضي ، وأقروا أن الابن مفقود فالقاضي لا ينبغي له أن يحول المال من موضعه ، ولا يوقف شيئا منه للمفقود ، ومراده بهذا اللفظ أنه لا يخرج شيئا من أيديهما ; لأن القاضي لا يتعرض لإخراج المال من يد ذي اليد إلا بمحضر من الخصم ، ولا خصم هنا ، فإن أولاد المفقود لا يدعون لأنفسهم شيئا ، ولا يكونون خصما عن المفقود ; لأنه لا يدرى أن المفقود حي فيرث أو ميت فلا يرث
[ ص: 46 ] فلهذا لا يخرج المال من أيديهما بخلاف مال المفقود الذي يعلم أنه له ; لأن حق أولاده ثابت في ذلك المال باعتبار ملكه ، فإنهم يستحقون النفقة في ملكه ، واستصحاب الحال معتبر في إبقاء ما كان على ما كان ، وكذلك إن
قالت الابنتان : قد مات أخونا ، وقال ولد الابن : هو مفقود ; لأن من في يده المال قد أقر لولد الابن ببعض ذلك المال ، وهم قد ردوا إقرارهم بقولهم : أبونا مفقود فيسقط اعتبار ذلك الإقرار ، ولو
كان مال الميت في يدي ولد الابن المفقود ، وطلبت الابنتان ميراثهما ، واتفقوا أن الابن مفقود ، فإنه يعطى للابنتين النصف ; لأنا تيقنا باستحقاق النصف لهما ، فإن المفقود إن كان حيا فالميراث بينهما وبين أخيهما للذكر مثل حظ الأنثيين فلهما النصف ، وإن كان ميتا فلهما الثلثان والباقي لولد الابن فيدفع إليهما الأقل وهو النصف ، ويترك الباقي في يد ولد الابن من غير أن يقضي به لهما ، ولا لأبيهما ; لأنه لا يدري من المستحق لهذا الباقي ، ولو
كان المال في يد أجنبي فقالت الابنتان : مات أخونا قبل أبينا ، وقال ولد الابن : هو مفقود فإن أقر الذي في - يده المال بالمال للميت ، وبأن الابن مفقود فإنه يعطى للابنتين النصف أقل النصيبين لهما ، والباقي موقوف على يده حتى يظهر خصمه ، ومستحقه بظهور حال المفقود . وإن
قال الذي في يده المال قد مات المفقود قبل أبيه ، فإنه يجبر على دفع الثلثين إلى الابنتين ; لأن إقرار ذي اليد فيما في يده معتبر ، وقد أقر بأن ثلثي ما في يده للابنتين فيجبر على تسليم ذلك إليهما ، ولا يمتنع صحة إقراره يقول أولاد الابن : أبونا مفقود لأنهم لأنفسهم بهذا القول لا يدعون شيئا ، ثم يوقف الثلث الباقي على يد ذي اليد حتى يظهر خصمه ومستحقه .
ولو جحد الذي في يديه المال أن يكون المال للميت فأقامت الابنتان البينة أن أباهم مات وترك هذا المال ميراثا لهما ولأخيهما المفقود ، فإن كان حيا فهو الوارث معهما ، وإن كان ميتا فولده الوارث معهما ، ولا يعلم له غير هؤلاء ، فإنه يدفع إلى الابنتين النصف ، وهذا لأنهما بهذه البينة يثبتان الملك لأبيهما في المال ، والأب ميت ، وأحد الورثة ينتصب خصما عن الميت في إثبات الملك له بالبينة ثم يدفع إليهما القدر المتيقن بأنه مستحق لهما ، وهو النصف ، والباقي يخرج من يد ذي اليد فيوضع في يد عدل حتى يظهر مستحقه ; لأن ذا اليد قد جحده وظهرت جنايته بجحوده ، فلا يؤتمن بعد ذلك ، وإن كان معروفا بالعدالة ; لأن العدالة لا تتحرز زمن تناول ما يزعم أنه ملك بخلاف ما سبق ، فذو اليد كان هناك مقرا بأن المال للميت ، وقد انتفت الجناية منه بهذا الإقرار فكان ترك الباقي في يده أولى لظهور أمانته بالتجربة .
فإن
ادعى ولد المفقود أنه مات بعد شهادة الشهود لم أدفع .
[ ص: 47 ] إليهم شيئا حتى تقوم البينة على موته قبل أبيه ; لأنهم يريدون استحقاق اليد على ذي اليد ، ومجرد قولهم لا يكفي لذلك ، ولأن سبب الاستحقاق لهم غير معلوم ، فإن أباهم إن مات قبل موت الجد فهم يستحقون الثلث ميراثا من الجد ، وإن مات بعد موت الجد فهم يستحقون النصف ميراثا من أبيهم ، ولا يجوز القضاء لهم بشيء قبل ظهور سبب الاستحقاق ، فلا بد أن يقيموا البينة على موته قبل أبيه أو بعده ، ولا ينفق عليهم من ذلك المال شيء ، وإن كانوا محتاجين ; لأنه لا يدري لمن هذا المال ، ونفقتهم عند الحاجة في مال أبيهم ، والملك لأبيهم في هذا المال لا يثبت ما لم تعلم حياته بعد موت الجد . فإن كان المال أرضا في أيدي الابنتين وولد الابن فأقروا جميعا أن الابن قد مات قبل أبيه ، واقتسموا الأرض بينهم على ذلك ثم ادعوا أنه مفقود ، فإن القاضي يمضي القسمة عليهم ; لأنها تمت بتراضيهم ، وقولهم فيما في أيديهم مقبول فكانت القسمة ماضية ، ولا يقبل قولهم إنه مفقود لأنهم مناقضون في ذلك ، والقاضي لا يلتفت إلى قول المناقض .
وكذلك لو
كان في ولد الابن رجل غائب لم يشهد القسمة ، ولم يكن في يده شيء من هذه الأرض ثم قدم فقال : والدي مفقود ، وأراد نقض القسمة لم يكن له ذلك ; لأنه لا يدعي لنفسه بمقابلته ، وإنما يدعي الملك للمفقود ، وهو مقر أنه ليس بوكيل له ، ولا وارث لأنه حي ، ونقض القسمة بقول من لا يدعي لنفسه شيئا لا يجوز ، بخلاف ما لو كان بعض الأرض في يده لأنه مدع لنفسه حقا ، وهو إبقاء يده فيما في يده ، وقسمتهم قبل حضوره غير صحيح لما فيه من استحقاق يده عليه ، وكذلك لو كان مكان الغائب صغير فأدرك ، وإن ادعى أن أباه مات قبل جده كان له أن ينقض القسمة فيقسمها القاضي بينهم قسمة مستقبلة بإقرارهم على أنفسهم ; لأنه يدعي لنفسه بعض الملك هنا ، ويدعي بطلان قسمتهم ; لأن تراضيهم على القسمة بعد موت الجد لا يعمل به في حق الغائب والصغير ، وهم مصدقون له فيما يدعي ، فلهذا ينقض القسمة بخلاف ما لو كان القاضي هو الذي قسمه بين الحضور ، وعزل نصيب الغائب والصغيرة ، فإنه ينفذ قسمته في حقهما إذا لم يكن في يد الغائب والصغير من هذا المال شيء لأن للقاضي نوع ولاية في حق الغائب والصغير ، وليس للورثة تلك الولاية في حق الغائب والصغير ، ولو
ماتت ابنة هذا الابن المفقود فإن كان ميراثها في يد أخيها لم أتعرض له ، ولم أقف منه شيئا للمفقود ; لأنه لا يدرى أحي هو فيكون وارثا أو ميت فلا يكون وارثا ، وقد بينا أنه لا يتعرض ليد ذي اليد إلا بمحضر من الخصم . وإن
كان ميراثها في يد [ ص: 48 ] أجنبي لم أدفع إلى أخيها منه شيئا ; لأن شرط توريث الأخ أن يكون الأب ميتا فما لم يصر هذا الشرط معلوما بالحجة لا يدفع إلى الأخ من الميراث شيء ، وإن كان ميراثها في يد أخيها وأختها ، وأرادوا القسمة وهم مقرون بأن الأب مفقود لم أقسم بينهم ; لأن القسمة تبنى على ثبوت استحقاقهم بالميراث ، ولا يثبت ذلك ما لم تقم البينة على موت الأب المفقود قبل موت الابنة .