( قال رحمه الله ) ولو أن
لصا أكره رجلا بوعيد تلف على أن يعتق عبدا يساوي ألف درهم عن رجل بألف درهم ففعل ذلك ، وقبل المعتق عنه طائعا ، فالعبد حر عن المعتق عنه ، والولاء له ; لأن المولى لو كان طائعا في هذا الإيجاب كان العبد حرا على المعتق عنه ، فكذلك إذا كان مكرها إذ لا تأثير للإكراه في المنع من العتق ، فإن قيل : إذا كان طائعا يصير كأنه ملك العبد بألف درهم ، وأعتقه عنه ، وإن كان مكرها لا يمكن تصحيح العتق عن المعتق عنه بهذا الطريق ; لأن تمليك المكره بعوض يكون فاسدا ، والملك بالسبب الفاسد لا يثبت إلا بالقبض ، ولم يوجد
[ ص: 113 ] القبض ، فكيف يعتق العبد عن المعتق عنه ؟ قلنا هذا التمليك غير مقصود بسببه ، ولكنه في ضمن العتق ، فيكون حكمه حكم العتق ، والإكراه لا يمنع صحة العتق ، فكذلك لا يمنع صحة هذا التمليك بدون القبض .
( ألا ترى ) أن التمليك إذا كان مقصودا ، فسببه لا يثبت بدون القبول ، وإذا كان في ضمن العتق يثبت بدون القبول بأن يقول : أعتق عبدك عني بألف درهم ، ويقول الآخر : أعتقت يصح بدون القبول ، والقبض في البيع الفاسد كالقبول في البيع الصحيح ، فكما سقط اعتبار القبول هناك سقط اعتبار القبض هنا على أن الإعتاق يجعل قبضا في البيع الصحيح ، فكذلك في البيع الفاسد الذي هو في ضمن العقد ، وهو نظير ما لو
قال لغيره : أعتق عبدك عني على ألف درهم ، ورطل من خمر فقال : أعتقت يصير الآمر قابضا بنفوذ العتق عنه ، وإن كان البيع المندرج في كلامه فاسدا ، وقد قررنا هذا في باب الظهار من كتاب الطلاق .
فكذلك في مسألة الإكراه ، ثم رب العبد بالخيار إن شاء ضمن قيمة عبده المعتق عنه ، وإن شاء المكره ; لأن المعتق عنه قبله باختياره ، وقد تعذر عليه رده لنفوذ العتق من جهته ، فيكون ضامنا قيمته ، والمكره متلف ملكه عليه بالإكراه الملجئ ، فيكون ضامنا له قيمته ، فإن قيل : المكره إنما ألجأه إلى إزالة الملك بعوض يعدله ، وهو الألف ، فكيف يجب الضمان عليه ؟ قلنا هو أكرهه على إبطال الملك بالإعتاق ، وليس بإزائه عوض ، وإنما العوض بمقابلة التمليك الثابت بمقتضى كلامه ، والمقتضى تابع للمقتضى ، فإنما ينبني الحكم على ما هو الأصل ، وباعتبار الأصل هو متلف عليه ملكه بغير عوض ، فإن ضمن المكره قيمته رجع بها على المعتق عنه ; لأنه قائم مقام المولى حين ضمن له القيمة ، ولأن العبد قد احتبس عند المعتق عنه حين عتق على ملكه ، ويثبت الولاء له ، وكان هو المعتق بقوله طوعا ، فلا يسلم له مجانا ، وإن ضمنها المعتق عنه لم يرجع بها على المكره ; لأنه ضمن باحتباس الملك عنده ، ولو أكرهه بحبس كانت القيمة له على المعتق عنه ، ولا شيء له على المكره ; لأن الإلجاء لا يحصل بالإكراه بالحبس ، وبدونه لا يصير الإتلاف منسوبا إلى المكره ، ولو كان أكره المعتق ، والمعتق عنه بوعيد تلف حتى ، فعلا ذلك فالعبد حر عن المعتق عنه ، والولاء له ، وضمان العبد على المكره خاصة لمولى العبد ; لأن المعتق عنه ملجأ إلى القبول ، وهذا النوع من الضرورة يخرجه من أن يكون متلفا مستوجبا للضمان ، وإنما المتلف هو المكره ، فالضمان عليه خاصة بخلاف الأول ، فهناك المعتق عنه طائع في القبول فيصير به متلفا للعبد ضامنا ، فإن قيل : العبد قد احتبس عند المعتق عنه ، فإنه عتق على ملكه ، وثبت الولاء له ، وإن كان هو ملجأ في القبول ، فينبغي أن يجب عليه الضمان
[ ص: 114 ] قلنا المحتبس عنده مقدار ما ثبت له من الولاء ، وذلك ليس بمتقوم .
( ألا ترى ) أن من أكره رجلا على أن يعتق عبده كان المكره ضامنا له جميع قيمته ، وإن كان الولاء ثابتا للمعتق ، فلما لم يعتبر الولاء في إسقاط حقه في الضمان ، فكذلك لا يعتبر الولاء في إيجاب الضمان عليه ، وإنما هذا بمنزلة ما لو
أكره رجلا على بيع عبده من هذا بألف درهم ، ودفعه إليه ، وأكره الآخر على شرائه ، وقبضه ، وعتقه بوعيد تلف ، ففعلا ذلك ، ففي هذا الضمان يكون على المكره خاصة ، فكذلك فيما سبق ، ولو أكرههما على ذلك بالحبس ، ففعلا ضمن المعتق عنه قيمته لمولاه ; لأن المكره غير ملجأ هنا ، فلا ضمان عليه ، والإتلاف حاصل بقبول المعتق عنه ، وقد بقي مقصورا عليه حين لم يكن ملجأ إلى ذلك ، فكان ضامنا قيمته ، فإن قيل : الإكراه بالحبس يمنع صحة التزام المال بالقبول ، والمعتق عنه إنما يلتزم الضمان هنا بقوله ، وهو القبول .
قلنا لا كذلك بل هو ملتزم لصيرورته قابضا بالإعتاق متلفا ، والإكراه بالحبس لا يمنع تحقق الإتلاف منه موجبا للضمان عليه ، ولو أكرهه المولى بوعيد تلف ، وأكره الآخر بحبس حتى ، فعلا ذلك كان للمولى أن يضمن أيهما شاء قيمته ; لأن المكره ألجأ المولى إلى إتلاف ملكه ، فيكون ضامنا له قيمته ، والمعتق عنه بالقبول متلف معتق ; لأنه ما كان ملجأ إليه ، فيكون للمولى الخيار ، فأيهما اختار ضمانه لم يكن له بعد ذلك أن يضمن الآخر شيئا ، فإن ضمن المكره رجع على المعتق عنه بما ضمن ; لأنه قام مقام المولى ، ولأن المعتق عنه متلف للملك بفعل مقصور عليه ، فلا بد من إيجاب ضمان القيمة عليه ، ولو أكره المولى بالحبس ، وأكره المعتق عنه بوعيد تلف ، فالعبد حر عن المعتق عنه ، ثم المعتق بقيمته غير مدبر ; لأنه قام مقام المولى في الرجوع عليه حين ضمن له قيمته ، فإن لم يرجع المكره على المدبر عنه يضمن الذي أكرهه قيمة العبد ; لأنه ملجأ إلى القبول من جهته ، وبه تلف الملك عليه ، فكان ضامنا له قيمته ، وإذا قبضها دفعها إلى مولى العبد ; لأن القيمة قائمة مقام العين ، ولو كان العبد في يده على حاله كان عليه رده على المولى لكونه مكرها بالحبس ، فكذلك إذا وصل إليه قيمته ، ولا سبيل للمعتق على المكره ; لأنه ما كان ملجأ من جهته حين أكرهه بالحبس .
ولو أكرههما بوعيد تلف حتى دبره صاحبه عنه بألف درهم ، وقبل ذلك صاحبه فالتدبير جائز عن الذي دبره عنه لأن التدبير يوجب حق الحرية للعبد ، ومن شرطه ملك المحل بمنزلة حقيقة الحرية ، والإكراه كما لا يمنع صحة العتق لا يمنع صحة التدبير ، ثم المولى بالخيار إن شاء ضمن الذي أكرهه قيمته عبدا غير مدبر ; لأنه أتلف عليه ملكه حتى ألجأه إلى تدبيره عن
[ ص: 115 ] الغير ، وفي حقه هذا ، والإلجاء إلى الإعتاق سواء ; لأن ملكه يزول في الموضعين ، وإذا ضمنه ذلك يرجع المكره على الذي دبره عنه بقيمته مدبرا ، ولا يرجع بفضل ما بين التدبير ، وغيره ; لأن النقصان الحاصل بالتدبير كان بقبوله ، ولكنه كان ملجأ إلى القبول من جهته ، فصار هذا النقصان كجميع القيمة في مسألة العتق .
وقد بينا قبل هذا نظيره في العتق أن المكره لا يرجع على المعتق عنه ، فهنا أيضا لا يرجع عليه بالنقصان ، ولكن يرجع عليه بقيمته مدبرا ; لأن العبد قد احتبس عنده بهذه الصفة ، والمدبر مال متقوم ، فلا يجوز أن يسلم له مجانا ، ولكنه يضمن قيمته لاحتباسه عنده ، وإن انعدم الصنع منه لكونه ملجأ إلى القبول كمن استولد جارية بالنكاح ، ثم ورثها مع غيره يضمن قيمة نصيب شريكه منها لاحتباسها عنده بالاستيلاد ، وإن كان لا صنع له في الميراث ، وإن شاء مولى العبد يرجع بقيمته مدبرا على الذي دبره عنه لاحتباسه عنده ، ويرجع على المكره بنقصان التدبير ; لأن ذلك الجزء قد تلف بفعل منسوب إلى المكره لوجود الإلجاء منه ، ولو كان إنما أكرههما على ذلك بالحبس ، فالعبد مدبر للذي دبره عنه يعتق بموته ، ولا ضمان على المكره ; لأن الإتلاف لم يصر منسوبا إليه بالإكراه بالحبس ، ولكن المولى يرجع بقيمة عبده تامة على المدبر عنه ; لأن ما تلف بالتدبير ، وما احتبس عنده صار كله مضمونا عليه حين لم يكن ملجأ إلى القبول ، فلهذا ضمن قيمته غير مدبر .
ولو كان أكره المولى بوعيد تلف ، وأكره الآخر بالحبس ، فالمولى بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمته عبدا غير مدبر ; لأنه كان ملجأ من جهته إلى إزالة ملكه ، وإن شاء ضمن المدبر عنه قيمته غير مدبر ; لأنه غير ملجأ إلى القبول ، فكان حكم الإتلاف ، والحبس مقصورا عليه ، وإن ضمن المكره رجع على المدبر عنه بعد ما اختار المولى تضمينه حتى أبرأ المولى المكره من القيمة التي ضمنها إياه ، أو وهبها له ، أو أخرها عنه شهرا ، فكان للمكره أن يرجع على المدبر عنه على حاله ; لأن المولى باختياره تضمينه يصير مملكا منه القيمة التي على المدبر عنه ، ولهذا لم يكن له أن يرجع على المدبر عنه بشيء بعد ذلك ، فإبراؤه إياه ، وتأجيله لا يسقط حق المكره في الرجوع على المدبر عنه كالوكيل بالشراء إذا أبرأ عن الثمن كان له أن يرجع على الموكل ، وهذا بخلاف الكفيل بالدين إذا أبرأ ; لأن هناك الحق لم يسقط عن الأصيل ، وهنا باختياره تضمين المكره سقط حقه عن الرجوع على المدبر عنه ، وتعين ذلك حقا للمكره ، ولو كان المولى أكره بالحبس ، وأكره الآخر بوعيد تلف حتى ، فعلا ذلك كان للمولى أن يرجع على المدبر عنه بقيمته مدبرا لاحتباس العبد عنده مدبرا
[ ص: 116 ] لسبب فاسد ، ويرجع على المكره بنقصان التدبير لأن تلف هذا الجزء حصل بقبول المدبر عنه ، وهو كان ملجأ إلى ذلك ، وإن لم يكن المولى ملجأ بالإكراه بالحبس .
والأصح عندي أن الرجوع بنقصان التدبير على المكره يكون للمدبر عنه يأخذ ذلك منه ، فيدفعه إلى المكره ; لأن نقصان التدبير هنا كجميع القيمة في مسألة العتق ، وقد بينا هناك أن المعتق عنه هو الذي يستوفي القيمة ، فيدفعها إلى المكره ، وهذا ; لأن العبد دخل في ملك المدبر عنه ، ثم صار مدبرا ، والمولى كان مكرها من جهة المكره بالحبس ، وبالإكراه بالحبس لا يجب له عليه الضمان ، وإنما يجب بالإكراه بوعيد تلف ، وذلك إنما وجد بين المكره ، والمدبر عنه ، وكذلك في هذه الوجوه كلها لو
أكرههما بالبيع ، والقبض ، وأكره المشتري على التدبير ، فهو في التخريج نظير ما سبق .