شخوص التوابين إلى ابن زياد للطلب بدم الحسين عليه السلام

وفي سنة خمس وستين

اجتمع إلى سليمان بن صرد نحو من سبعة عشر ألفا ، كلهم يطلبون الأخذ بثأر الحسين ممن قتله .

ثم أشار عليهم سليمان بن صرد بقصد عبيد الله بن زياد ، فأشار بعضهم بمقاتلة من بالكوفة من رءوس القبائل من قتلة الحسين كعمر بن سعد بن أبي وقاص وأضرابه ، فامتنع سليمان بن صرد إلا أن يذهبوا إلى عبيد الله بن زياد ; فإنه هو الذي جهز إليه الجيوش ، وألب الناس عليه ، وامتنع من قبول ما طلبه منه ، وقال : ليس له إلا السيف ، وها هو قد أقبل من الشام قاصدا العراق . فصمم الناس معه على هذا الرأي .

فلما أزمعوا على ذلك بعث عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد أمراء الكوفة من جهة ابن الزبير إلى سليمان بن صرد يقولان له : إنا نحب أن تكون أيدينا واحدة على ابن زياد . وأنهم يريدون أن يبعثوا معهم جيشا ليقويهم على ما قصدوا له ، وبعثوا إليه البريد أن ينتظرهم حتى يقدموا عليه ، فتهيأ سليمان بن صرد لقدومهم عليه في رءوس الأمراء ، وجلس في أبهته ، والجيوش محدقة به ، وأقبل عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة في أشراف أهل الكوفة من غير قتلة الحسين لئلا يطمعوا فيهم ، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص في هذه الأيام كلها لا يبيت إلا في قصر الإمارة عند عبد الله بن يزيد خوفا على نفسه ، فلما اجتمع الأميران عند سليمان بن صرد قالا له وأشارا عليه أن لا يذهبوا حتى تكون أيديهم كلهم واحدة على قتال عدوهم ابن زياد ، ويجهزوا معهم جيشا آخر فإن أهل الشام جمع كثير وجم غفير ، وهم يحاجفون عن ابن زياد ، فامتنع سليمان بن صرد من قبول قولهما وقال : إنا قد خرجنا لأمر لا نرجع عنه ، ولا نتأخر فيه . فانصرف الأميران راجعين إلى الكوفة ، وانتظر سليمان بن صرد وأصحابه أصحابهم الذين كانوا قد واعدوهم من أهل البصرة وأهل المدائن أن يقدموا عليهم النخيلة في هذه السنة ، فلم يقدموا عليهم ولا واحد منهم ، فقام سليمان بن صرد في أصحابه خطيبا ، وحرضهم على الذهاب لما خرجوا له ، وقال : لو قد سمع إخوانكم بمسيركم للحقوكم سراعا . وأرسل حكيم بن منقذ الكندي والوليد بن عصير الكناني ، فناديا في الكوفة : يا لثارات الحسين ! فكانا أول خلق الله دعوا : يا لثارات الحسين .

فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما في عسكره ، ثم نظر في ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفا ممن بايعه ، فقال : سبحان الله ! ما وافانا من ستة عشر ألفا إلا أربعة آلاف .

فقيل له : إن المختار يثبط الناس عنك ، إنه قد تبعه ألفان .

فقال : قد بقي عشرة آلاف ، أما هؤلاء بمؤمنين ؟ أما يذكرون الله والعهود والمواثيق ؟ فأقام بالنخيلة ثلاثا يبعث إلى من تخلف عنه ، فخرج إليه نحو من ألف رجل .

فقام إليه المسيب بن نجبة فقال : رحمك الله ! إنه لا ينفعك الكاره ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية ، فلا تنتظر أحدا وجد في أمرك .

قال : نعم ما رأيت .

ثم قام سليمان في أصحابه فقال : أيها الناس من كان خرج يريد بخروجه وجه الله والآخرة فذلك منا ونحن منه فرحمة الله عليه حيا وميتا ، ومن كان إنما يريد الدنيا فوالله ما نأتي فيئا نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان [ الله ] ، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع ، وما هي إلا سيوفنا على عواتقنا ، وزاد قدر البلغة ، فمن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا .

فتنادى أصحابه من كل جانب : إنا لا نطلب الدنيا وليس لها خرجنا إنما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول الله نبينا - صلى الله عليه وسلم - . خروج سليمان بن صرد من النخيلة فخرج سليمان وأصحابه من النخيلة يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول ، سنة خمس وستين ، فسار بهم مراحل ، ما يتقدمون مرحلة إلى نحو الشام إلا تخلف عنه طائفة من الناس الذين معه ، فلما مروا بقبر الحسين صاحوا صيحة رجل واحد فما رئي أكثر باكيا من ذلك اليوم ، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه ، وترك القتال معه وأقاموا عنده يوما وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه ، ( وكان من قولهم عند ضريحه : اللهم ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد ، المهدي ابن المهدي ، الصديق ابن الصديق ، اللهم إنا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبيهم ، اللهم إنا خذلنا ابن بنت نبينا - صلى الله عليه وسلم - فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا وارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصديقين ، وإنا نشهدك أنا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ! وزادهم النظر إليه حنقا ) .

قلت : لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة لكان أنفع له وأنصر من اجتماعهم لنصرته بعد أربع سنين .

ولما أرادوا الانصراف جعل لا يسير أحد منهم حتى يأتي القبر فيترحم عليه ، ويستغفر له ، حتى جعلوا يزدحمون عليه أشد من ازدحامهم عند الحجر الأسود ، ثم أخذوا على الأنبار ، وكتب إليهم عبد الله بن يزيد كتابا ، منه : يا قومنا لا تطيعوا عدوكم ، أنتم في أهل بلادكم خيار كلكم ، ومتى يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم ، فيطمعهم ذلك فيمن وراءكم ، يا قومنا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ، يا قوم إن أيدينا وأيديكم واحدة وعدونا وعدوكم واحد ومتى تجتمع كلمتنا على عدونا نظهر على عدونا ومتى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا ، يا قومنا لا تستغشوا نصحي ، ولا تخالفوا أمري وأقبلوا حين يقرأ كتابي عليكم . والسلام .

فقال سليمان وأصحابه : قد أبينا هذا ونحن في مصرنا ، فحين وطنا أنفسنا على الجهاد ودنونا من أرض عدونا ، ما هذا برأي .

فكتب إليه سليمان يشكره ويثني عليه ويقول : إن القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربهم ، وإنهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى الله وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى الله عليهم .

فلما جاء الكتاب إلى عبد الله قال : استمات القوم ، أول خبر يأتيكم عنهم قتلهم ، والله ليقتلن كراما مسلمين . ثم ساروا قاصدين الشام ، حتى انتهوا إلى قرقيسيا على تعبية ، وبها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصن بها منهم ولم يخرج إليهم ، فأرسل إليه المسيب بن نجبة يطلب إليه أن يخرج إليه سوقا ، فأتى المسيب إلى باب قرقيسيا فعرفهم نفسه وطلب الإذن على زفر ، فأتى هذيل بن زفر أباه فقال : هذا رجل حسن الهيئة اسمه المسيب بن نجبة يستأذن عليك .

فقال أبوه : أما تدري يا بني من هذا ؟ هذا فارس مضر الحمراء كلها ، إذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم هو ، وهو بعد رجل ناسك له دين ، إيذن له .

فأذن له ، فلما دخل عليه أجلسه إلى جانبه وسأله ، فعرفه المسيب حاله وما عزموا عليه ، فقال زفر : إنا لم نغلق أبواب المدينة إلا لنعلم إيانا تريدون أم غيرنا ، وما بنا عجز عن الناس وما نحب قتالكم ، وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة جميلة .

ثم أمر ابنه فأخرج لهم سوقا ، وأمر للمسيب بألف درهم وفرس ، فرد المال وأخذ الفرس وقال : لعلي أحتاج إليه إن عرج فرسي .

وبعث زفر إليهم بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق ، إلا أن الرجل كان يشتري سوطا أو ثوبا .

ثم ارتحلوا من الغد ، وخرج إليهم زفر يشيعهم وقال لسليمان : إنه قد سار خمسة أمراء من الرقة هم الحصين بن نمير ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وأدهم بن محرز ، وجبلة بن عبد الله الخثعمي ، وعبيد الله بن زياد ، في عدد كثير مثل الشوك والشجر ، فإن شئتم دخلتم مدينتنا وكانت أيدينا واحدة ، فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعا .

فقال سليمان : قد طلب أهل مصرنا ذلك منا فأبينا عليهم .

قال زفر : فبادروهم إلى عين الوردة وهي رأس عين فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم ، وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه ، فاطووا المنازل ، فوالله ما رأيت جماعة قط أكرم منكم ، فإني أرجو أن تسبقوهم ، وإن قاتلتموهم فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم فإنهم أكثر منكم ، ولا آمن أن يحيطوا بكم ، فلا تقفوا لهم فيصرعوكم ، ولا تصفوا لهم ، فإني لا أرى معكم رجالة ومعهم الرجالة والفرسان بعضهم يحمي بعضا ، ولكن القوهم في الكتائب والمقانب ثم بثوها فيما بين ميمنتهم وميسرتهم واجعلوا مع كل كتيبة أخرى إلى جانبها ، فإن حمل على إحدى الكتيبتين رحلت الأخرى فنفست عنها ، ومتى شاءت كتيبة ارتفعت ، ومتى شاءت كتيبة انحطت ، ولو كنتم صفا واحدا فزحفت إليكم الرجالة فدفعتم عن الصف انتقض فكانت الهزيمة .

ثم ودعهم ودعا لهم ودعوا له وأثنوا عليه .

ثم ساروا مجدين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيها وأقاموا خمسا فاستراحوا وأراحوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية