الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            شخوص التوابين إلى ابن زياد للطلب بدم الحسين عليه السلام

            وفي سنة خمس وستين

            اجتمع إلى سليمان بن صرد نحو من سبعة عشر ألفا ، كلهم يطلبون الأخذ بثأر الحسين ممن قتله .

            ثم أشار عليهم سليمان بن صرد بقصد عبيد الله بن زياد ، فأشار بعضهم بمقاتلة من بالكوفة من رءوس القبائل من قتلة الحسين كعمر بن سعد بن أبي وقاص وأضرابه ، فامتنع سليمان بن صرد إلا أن يذهبوا إلى عبيد الله بن زياد ; فإنه هو الذي جهز إليه الجيوش ، وألب الناس عليه ، وامتنع من قبول ما طلبه منه ، وقال : ليس له إلا السيف ، وها هو قد أقبل من الشام قاصدا العراق . فصمم الناس معه على هذا الرأي .

            فلما أزمعوا على ذلك بعث عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد أمراء الكوفة من جهة ابن الزبير إلى سليمان بن صرد يقولان له : إنا نحب أن تكون أيدينا واحدة على ابن زياد . وأنهم يريدون أن يبعثوا معهم جيشا ليقويهم على ما قصدوا له ، وبعثوا إليه البريد أن ينتظرهم حتى يقدموا عليه ، فتهيأ سليمان بن صرد لقدومهم عليه في رءوس الأمراء ، وجلس في أبهته ، والجيوش محدقة به ، وأقبل عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة في أشراف أهل الكوفة من غير قتلة الحسين لئلا يطمعوا فيهم ، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص في هذه الأيام كلها لا يبيت إلا في قصر الإمارة عند عبد الله بن يزيد خوفا على نفسه ، فلما اجتمع الأميران عند سليمان بن صرد قالا له وأشارا عليه أن لا يذهبوا حتى تكون أيديهم كلهم واحدة على قتال عدوهم ابن زياد ، ويجهزوا معهم جيشا آخر فإن أهل الشام جمع كثير وجم غفير ، وهم يحاجفون عن ابن زياد ، فامتنع سليمان بن صرد من قبول قولهما وقال : إنا قد خرجنا لأمر لا نرجع عنه ، ولا نتأخر فيه . فانصرف الأميران راجعين إلى الكوفة ، وانتظر سليمان بن صرد وأصحابه أصحابهم الذين كانوا قد واعدوهم من أهل البصرة وأهل المدائن أن يقدموا عليهم النخيلة في هذه السنة ، فلم يقدموا عليهم ولا واحد منهم ، فقام سليمان بن صرد في أصحابه خطيبا ، وحرضهم على الذهاب لما خرجوا له ، وقال : لو قد سمع إخوانكم بمسيركم للحقوكم سراعا . وأرسل حكيم بن منقذ الكندي والوليد بن عصير الكناني ، فناديا في الكوفة : يا لثارات الحسين ! فكانا أول خلق الله دعوا : يا لثارات الحسين .

            فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما في عسكره ، ثم نظر في ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفا ممن بايعه ، فقال : سبحان الله ! ما وافانا من ستة عشر ألفا إلا أربعة آلاف .

            فقيل له : إن المختار يثبط الناس عنك ، إنه قد تبعه ألفان .

            فقال : قد بقي عشرة آلاف ، أما هؤلاء بمؤمنين ؟ أما يذكرون الله والعهود والمواثيق ؟ فأقام بالنخيلة ثلاثا يبعث إلى من تخلف عنه ، فخرج إليه نحو من ألف رجل .

            فقام إليه المسيب بن نجبة فقال : رحمك الله ! إنه لا ينفعك الكاره ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية ، فلا تنتظر أحدا وجد في أمرك .

            قال : نعم ما رأيت .

            ثم قام سليمان في أصحابه فقال : أيها الناس من كان خرج يريد بخروجه وجه الله والآخرة فذلك منا ونحن منه فرحمة الله عليه حيا وميتا ، ومن كان إنما يريد الدنيا فوالله ما نأتي فيئا نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان [ الله ] ، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع ، وما هي إلا سيوفنا على عواتقنا ، وزاد قدر البلغة ، فمن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا .

            فتنادى أصحابه من كل جانب : إنا لا نطلب الدنيا وليس لها خرجنا إنما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول الله نبينا - صلى الله عليه وسلم - . خروج سليمان بن صرد من النخيلة فخرج سليمان وأصحابه من النخيلة يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول ، سنة خمس وستين ، فسار بهم مراحل ، ما يتقدمون مرحلة إلى نحو الشام إلا تخلف عنه طائفة من الناس الذين معه ، فلما مروا بقبر الحسين صاحوا صيحة رجل واحد فما رئي أكثر باكيا من ذلك اليوم ، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه ، وترك القتال معه وأقاموا عنده يوما وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه ، ( وكان من قولهم عند ضريحه : اللهم ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد ، المهدي ابن المهدي ، الصديق ابن الصديق ، اللهم إنا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبيهم ، اللهم إنا خذلنا ابن بنت نبينا - صلى الله عليه وسلم - فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا وارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصديقين ، وإنا نشهدك أنا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ! وزادهم النظر إليه حنقا ) .

            قلت : لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة لكان أنفع له وأنصر من اجتماعهم لنصرته بعد أربع سنين .

            ولما أرادوا الانصراف جعل لا يسير أحد منهم حتى يأتي القبر فيترحم عليه ، ويستغفر له ، حتى جعلوا يزدحمون عليه أشد من ازدحامهم عند الحجر الأسود ، ثم أخذوا على الأنبار ، وكتب إليهم عبد الله بن يزيد كتابا ، منه : يا قومنا لا تطيعوا عدوكم ، أنتم في أهل بلادكم خيار كلكم ، ومتى يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم ، فيطمعهم ذلك فيمن وراءكم ، يا قومنا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ، يا قوم إن أيدينا وأيديكم واحدة وعدونا وعدوكم واحد ومتى تجتمع كلمتنا على عدونا نظهر على عدونا ومتى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا ، يا قومنا لا تستغشوا نصحي ، ولا تخالفوا أمري وأقبلوا حين يقرأ كتابي عليكم . والسلام .

            فقال سليمان وأصحابه : قد أبينا هذا ونحن في مصرنا ، فحين وطنا أنفسنا على الجهاد ودنونا من أرض عدونا ، ما هذا برأي .

            فكتب إليه سليمان يشكره ويثني عليه ويقول : إن القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربهم ، وإنهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى الله وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى الله عليهم .

            فلما جاء الكتاب إلى عبد الله قال : استمات القوم ، أول خبر يأتيكم عنهم قتلهم ، والله ليقتلن كراما مسلمين . ثم ساروا قاصدين الشام ، حتى انتهوا إلى قرقيسيا على تعبية ، وبها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصن بها منهم ولم يخرج إليهم ، فأرسل إليه المسيب بن نجبة يطلب إليه أن يخرج إليه سوقا ، فأتى المسيب إلى باب قرقيسيا فعرفهم نفسه وطلب الإذن على زفر ، فأتى هذيل بن زفر أباه فقال : هذا رجل حسن الهيئة اسمه المسيب بن نجبة يستأذن عليك .

            فقال أبوه : أما تدري يا بني من هذا ؟ هذا فارس مضر الحمراء كلها ، إذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم هو ، وهو بعد رجل ناسك له دين ، إيذن له .

            فأذن له ، فلما دخل عليه أجلسه إلى جانبه وسأله ، فعرفه المسيب حاله وما عزموا عليه ، فقال زفر : إنا لم نغلق أبواب المدينة إلا لنعلم إيانا تريدون أم غيرنا ، وما بنا عجز عن الناس وما نحب قتالكم ، وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة جميلة .

            ثم أمر ابنه فأخرج لهم سوقا ، وأمر للمسيب بألف درهم وفرس ، فرد المال وأخذ الفرس وقال : لعلي أحتاج إليه إن عرج فرسي .

            وبعث زفر إليهم بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق ، إلا أن الرجل كان يشتري سوطا أو ثوبا .

            ثم ارتحلوا من الغد ، وخرج إليهم زفر يشيعهم وقال لسليمان : إنه قد سار خمسة أمراء من الرقة هم الحصين بن نمير ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وأدهم بن محرز ، وجبلة بن عبد الله الخثعمي ، وعبيد الله بن زياد ، في عدد كثير مثل الشوك والشجر ، فإن شئتم دخلتم مدينتنا وكانت أيدينا واحدة ، فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعا .

            فقال سليمان : قد طلب أهل مصرنا ذلك منا فأبينا عليهم .

            قال زفر : فبادروهم إلى عين الوردة وهي رأس عين فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم ، وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه ، فاطووا المنازل ، فوالله ما رأيت جماعة قط أكرم منكم ، فإني أرجو أن تسبقوهم ، وإن قاتلتموهم فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم فإنهم أكثر منكم ، ولا آمن أن يحيطوا بكم ، فلا تقفوا لهم فيصرعوكم ، ولا تصفوا لهم ، فإني لا أرى معكم رجالة ومعهم الرجالة والفرسان بعضهم يحمي بعضا ، ولكن القوهم في الكتائب والمقانب ثم بثوها فيما بين ميمنتهم وميسرتهم واجعلوا مع كل كتيبة أخرى إلى جانبها ، فإن حمل على إحدى الكتيبتين رحلت الأخرى فنفست عنها ، ومتى شاءت كتيبة ارتفعت ، ومتى شاءت كتيبة انحطت ، ولو كنتم صفا واحدا فزحفت إليكم الرجالة فدفعتم عن الصف انتقض فكانت الهزيمة .

            ثم ودعهم ودعا لهم ودعوا له وأثنوا عليه .

            ثم ساروا مجدين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيها وأقاموا خمسا فاستراحوا وأراحوا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية