ثم إنه لما ذكر سبحانه أحوال الكافرين لنعمه وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لها شرع جل وعلا في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام حثا للمؤمنين عليها وتقريعا للكفرة المخلين أتم إخلال بها فقال عز قائلا :
الله الذي خلق السماوات والأرض .. إلخ وهذا أولى مما قيل : إنه تعالى لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء وكان حصول السعادة بمعرفة الله تعالى وصفاته والشقاوة بالجهل بذلك ختم الوصف بالدلائل الدالة على وجوده جل شأنه وكمال علمه وقدرته فقال سبحانه ما قال لظهور اعتبار المذكورات في حيز الصلة نعما لا دلائل والاسم الجليل مبتدأ والموصول خبره ولا يخفى ما في الكلام من تربية المهابة والدلالة على قوة السلطان والمراد خلق السماوات وما فيها من الأجرام العلوية والأرض وما فيها من أنواع المخلوقات
وأنزل من السماء أي السحاب
ماء أي نوعا منه وهو المطر وسمي السحاب سماء لعلوه وكل ماعلاك سماء وقيل : المراد بالسماء الفلك المعلوم فإن المطر منه يتبدى إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض وعليه الكثير من المحدثين لظواهر الأخبار .
واستبعد ذلك الإمام لأن الإنسان ربما كان واقفا على قمة جبل عال ويرى السحاب أسفل منه فإذا نزل رآه ماطرا ثم قال : وإذا كان هذا أمرا مشاهدا بالبصر كان النزاع فيه باطلا وأول بعضهم الظواهر لذلك بأن معنى نزول المطر من السماء نزوله بأسباب ناشئة منها وأيا ما كان فـ ( من ) ابتدائية وهي متعلقة بـ ( أنزل ) وتقديم المجرور على المنصوب إما باعتبار كونه مبتدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك : إعطاء السلطان من خزائنه مالا أو لما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر
فأخرج به أي بذلك الماء
من الثمرات رزقا لكم تعيشون به وهو بمعنى المرزوق مرادا به المعنى اللغوي وهو كل ما ينتفع به فيشمل المطعوم والملبوس ونصبه على أنه مفعول ( أخرج ) و
من الثمرات بيان له فهو في موضع الحال منه وتقدم ( من ) البيانية على ما تبينه قد أجازه الكثير من النحاة وقد مر الكلام في ذلك واستظهر
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان المانع لذلك كون ( من ) للتبعيض والجار والمجرور في موضع الحال و
رزقا مفعول ( أخرج ) أيضا وجوز أن تكون ( من ) بمعنى بعض مفعول ( أخرج ) و
رزقا بمعنى مرزوقا حالا منه فهو بيان للمراد من بعض الثمرات لأن منها ما ينتفع به فهو رزق ومنها ما ليس كذلك ويجوز أن يكون
رزقا باقيا على مصدريته ونصبه على أنه مفعول له أي أخرج به ذلك لأجل الرزق والانتفاع به أو مفعول مطلق لأخرج لأن أخرج بعض الثمرات في معنى رزق فيكون في معنى قعدت جلوسا على المشهور وقيل : ( من ) زائدة ولا يرى جواز ذلك هنا إلا
nindex.php?page=showalam&ids=13673الأخفش و
لكم [ ص: 224 ] صفة لرزقا إن أريد به المرزوق ومفعول به إن أريد به المصدر كأنه قيل : رزقا إياكم والباء للسببية .
ومعنى كون الإخراج بسببه أن الله تعالى أودع فيه قوة مؤثرة بإذنه في ذلك حسبما جرت به حكمته الباهرة مع غناه الذاتي سبحانه عن الاحتياج إليه في الإخراج وهذا هو رأي السلف الذي رجع إليه الأشعري كما حقق في موضعه وزعم من زعم أن المراد أخرج عنده والتزموا هذا التأويل في ألوف من المواضع وضللوا القائلين بأن الله تعالى أودع في بعض الأشياء قوة مؤثرة في شيء ما حتى قالوا : إنهم إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان وأولئك عندي أقرب إلى الجنون وسفاهة الرأي و
الثمرات يراد بها ما يراد من جمع الكثرة لأن صيغ الجموع يتعاور بعضها موضع بعض أو لأنه أريد بالمفرد جماعة الثمرة التي في قولك : أكلت ثمرة بستان فلان وقد تقدم لك ما ينفعك تذكره في هذا المقام فتذكر
وسخر لكم الفلك السفن بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك وقيل : بأن جعلها لا ترسب في الماء
لتجري في البحر حيث توجهتم
بأمره بمشيئته التي بها نيط كل شيء وتخصيصه بالذكر على ما ذكره بعض المحققين للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمال واستعمال الآلات كما يتراءى من ظاهر الحال ويندرج في تسخير الفلك كما في البحر تسخيره وكذا تسخير الرياح
وسخر لكم الأنهار . (32) . جعلها معدة لانتفاعكم حيث تشربون منها وتتخذون جداول تسقون بها زروعكم وجناتكم وما أشبه ذلك هذا إذا أريد بالأنهار المياه العظيمة الجارية في المجاري المخصوصة وأما إذا أريد بها نفس المجاري فتسخيرها تيسيرها لهم لتجري فيها المياه