(الفائدة الرابعة) في تحقيق معنى أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، (اعلم) أن هذه المسألة من أمهات المسائل الدينية، والمباحث الكلامية، كم زلت فيها أقدام، وضلت عن الحق بها أقوام، وهي وإن كانت مشروحة في كتب المتقدمين، مبسوطة في زبر المتأخرين، لكني بحول من عز حوله، وفضل من غمرنا فضله أوردها في هذا الكتاب، ليتذكر أولو الألباب، بأسلوب عجيب، وتحقيق غريب، لا أظنك شنفت سمعك بمثل لآليه، ولا نورت بصرك بشبه بدر لياليه، فماء ولا كصدى، ومرعى ولا كالسعدان.
وما كل زهر ينبت الروض طيب ولا كل كحل للنواظر أثمد
فأقول: إن الإنسان له كلام بمعنى التكلم الذي هو مصدر، وكلام بمعنى المتكلم به الذي هو الحاصل بالمصدر، ولفظ الكلام موضوع لغة للثاني، قليلا كان أو كثيرا، حقيقة كان أو حكما، وقد يستعمل استعمال المصدر، كما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14374الرضي، وكل من المعنيين إما لفظي أو نفسي، فالأول من اللفظي فعل الإنسان باللسان، وما يساعده من المخارج، والثاني منه كيفية في الصوت المحسوس، والأول من النفسي فعل قلب الإنسان، ونفسه الذي لم يبرز إلى الجوارح، والثاني كيفية في النفس إذ لا صوت محسوسا عادة فيها، وإنما هو صوت معنوي مخيل، أما الكلام اللفظي بمعنييه فمحل وفاق، وأما النفسي فمعناه الأول تكلم الإنسان بكلمات ذهنية، وألفاظ مخيلة يرتبها في الذهن على وجه إذا تلفظ بها بصوت محسوس كانت عين كلماته اللفظية، ومعناه الثاني هو هذه الكلمات الذهنية، والألفاظ المخيلة المرتبة ترتيبا ذهنيا منطبقا عليه الترتيب الخارجي.
والدليل على أن للنفس كلاما بالمعنيين الكتاب والسنة فمن الآيات قوله تعالى :
فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا فإن (قال) بدل من (أسر)، أو استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال في نفسه في ذلك الإسرار؟ فقيل: قال
أنتم شر مكانا ، وعلى التقديرين، فالآية دالة على أن للنفس كلاما بالمعنى المصدري، وقولا بالمعنى الحاصل بالمصدر، وذلك من (أسر) والجملة بعدها، وقوله تعالى :
أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى وفسر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما أسره ابن
آدم في نفسه، وقوله تعالى :
واذكر ربك في نفسك وقوله تعالى :
يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا أي: يقولون في أنفسهم كما هو الأسرع انسياقا إلى الذهن، والآيات في ذلك كثيرة، ومن الأحاديث ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني nindex.php?page=hadith&LINKID=930344عن nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سأله رجل فقال : (إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجرى، فقال: لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن)، فسمى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الشيء المحدث به كلاما مع أنه كلمات ذهنية، والأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا صارف عنها، وقوله تعالى في الحديث القدسي:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656856 (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) الحديث، وفيه دليل على أن للعبد كلاما نفسيا بالمعنيين، وللرب أيضا كلاما نفسيا كذلك، ولكن أين التراب من رب الأرباب
[ ص: 11 ] فالمعنى الأول للحق تعالى شأنه صفة أزلية منافية للآفة الباطنية التي هي بمنزلة الخرس في التكلم الإنساني اللفظي، ليس من جنس الحروف والألفاظ أصلا، وهي واحدة بالذات تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به، وحاصل الحديث من تعلق تكلمه بذكر اسمي تعلق تكلمي بذكر اسمه، والتعلق من الأمور النسبية التي لا يضر تجددها، وحدوث المتعلق إنما يلزم في التعلق التنجيزي ولا ننكره، وأما التعلق المعنوي التقديري، ومتعلقه فأزليان، ومنه ينكشف وجه صحة نسبة السكوت عن أشياء رحمة غير نسيان، كما في الحديث، إذ معناه أن تكلمه الأزلي لم يتعلق ببيانها مع تحقق اتصافه أزلا بالتكلم النفسي، وعدم هذا التعلق الخاص لا يستدعي انتفاء الكلام الأزلي كما لا يخفى.
(والمعنى الثاني) له تعالى شأنه كلمات غيبية، وهي ألفاظ حكمية مجردة عن المواد مطلقا نسبية كانت أو خيالية أو روحانية، وتلك الكلمات أزلية مترتبة من غير تعاقب في الوضع الغيبي العلمي لا في الزمان، إذ لا زمان، والتعاقب بين الأشياء من توابع كونها زمانية، ويقربه من بعض الوجوه وقوع البصر على سطور الصفحة المشتملة على كلمات مرتبة في الوضع الكتابي دفعة، فهي مع كونها مترتبة لا تعاقب في ظهورها، فجميع معلومات الله الذي هو نور السماوات والأرض مكشوفة له أزلا، كما هي مكشوفة له فيما لا يزال، ثم تلك الكلمات الغيبية المترتبة ترتبا وضعيا أزليا يقدر بينها التعاقب فيما لا يزال، والقرآن كلام الله تعالى المنزل بهذا المعنى، فهو كلمات غيبية مجردة عن المواد، مترتبة في علمه أزلا، غير متعاقبة تحقيقا، بل تقديرا، عند تلاوة الألسنة الكونية الزمانية، ومعنى تنزيلها إظهار صورها في المواد الروحانية والخيالية والحسية من الألفاظ المسموعة والذهنية، والمكتوبة، ومن هنا قال السنيون: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور، مقروء بالألسن مسموع بالآذان، غير حال في شيء منها، وهو في جميع هذه المراتب قرآن حقيقة شرعية معلوم من الدين بالضرورة، فقولهم: (غير حال) إشارة إلى مرتبته النفسية الأزلية، فإنه من الشؤون الذاتية، ولم تفارق الذات، ولا تفارقها أبدا، ولكن الله تعالى أظهر صورها في الخيال والحس، فصارت كلمات مخيلة، وملفوظة مسموعة ومكتوبة مرئية، فظهر في تلك المظاهر من غير حلول، إذ هو فرع الانفصال، وليس فليس، فالقرآن كلامه تعالى غير مخلوق، وإن تنزل في هذه المراتب الحادثة، ولم يخرج عن كونه منسوبا إليه، أما في مرتبة الخيال فلقوله صلى الله عليه وسلم :
(أغنى الناس حملة القرآن، من جعله الله تعالى في جوفه)، وأما في مرتبة اللفظ فلقوله تعالى :
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن وأما في مرتبة الكتابة فلقوله تعالى :
بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ وقول الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد : (لم يزل الله متكلما كيف شاء، وإذا شاء بلا كيف)، إشارة إلى مرتبتين، فالأول إلى كلامه في مرتبة التجلي والتنزل إلى مظهر له كقوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=654426 (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان) الحديث، والثاني إلى مرتبة الكلام النفسي، إذ الكيف من توابع مراتب التنزلات، والكلام النفسي في مرتبة الذات مجرد عن المادة، فارتفع الكيف بارتفاعها، (فالحاصل) لم يزل الله تعالى متكلما، وموصوفا بالكلام من حيث تجلى، ومن حيث لا، فمن حيث تجليه في مظهر لكلامه كيف وإذا شاء لم يتكلم بما اقتضاه مظهر تجليه، فيكون متكلما بلا كيف كما كان، ولم يزل،
والأشعري إذا حققت الحال وجدته قائلا بأن لله تعالى كلاما بمعنى التكلم، وكلاما بمعنى المتكلم به، وأنه بالمعنى الثاني لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا، فإنها أقسام المتكلم به، وأن الكلام النفسي بالمعنى الثاني حروفه غير عارضة للصوت في الحق، والخلق، غير أنها في الحق كلمات غيبية مجردة عن المواد أصلا، إذ كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره، وفي الخلق كلمات مخيلة ذهنية فهي في مادة خيالية، فكلمات الكلام النفسي في جنابه تعالى كلمات حقيقية، لكنها ألفاظ حكمية، ولا يشترط اللفظ الحقيقي في كون الكلمة حقيقية إذ قد أطلق الفاروق الكلمة على أجزاء مقالته
[ ص: 12 ] المخيلة في خبر يوم السقيفة، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فالأجزاء كلمات حقيقية لغوية مع أنها ليست ألفاظا كذلك، إذ ليست حروفها عارضة لصوت، واللفظ الحقيقي ما كانت حروفه عارضة، وهو لكونه صورة اللفظ النفسي الحكمي دال عليه وهو دال في النفس على معناه بلا شبهة، وانفكاك، فيصدق على اللفظ النفسي بمعناه أنه مدلول اللفظ الحقيقي ومعناه، فتفسير المعنى النفسي المشهور عن
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري بمدلول اللفظ وحده كما نقله صاحب المواقف عن الجمهور لا ينافي تفسيره بمجموع اللفظ والمعنى، كما فسره هو أيضا، وذلك بأن يحمل اللفظ في قوله على النفسي، وفي قول الجمهور على الحقيقي، ولا شك حينئذ أن مجموع النفسي ومعناه من حيث المجموع يصدق عليه أنه مدلول اللفظ الحقيقي وحده، لأن اللفظ الحقيقي لكونه صورة النفسي في مرتبة تنزله دال عليه، ويدل على أن المراد المجموع قول
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين في الإرشاد: ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس، وهو القول، أي المقول الذي يدور في الخلد، وهو اللفظ النفسي الدال على معناه بلا انفكاك، نعم، عبارة صاحب المواقف غير واضحة في المقصود وله مقالة مفردة في ذلك.
ومحصولها كما قال
السيد قدس سره: أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ، وأخرى على الأمر القائم بالغير، فالشيخ لما قال الكلام النفسي هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده، وهو القديم عنده، وأما العبارات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالته على ما هو كلام حقيقي، حتى صرحوا بأن الألفاظ خاصة حادثة على مذهبه أيضا، لكنها ليست كلامه حقيقة، وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة، كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة، وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي، وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية، فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني، فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا، قائما بذات الله تعالى، وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن، محفوظ في الصدور، وهو غير الكتابة، والقراءة، والحفظ، الحادثة، (وما يقال) من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة، فجوابه أن ذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة، فالتلفظ حادث، والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة، وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخرو أصحابنا إلا أنه بعد التأمل يعرف حقيقته انتهى، (واعتراضه)
الدواني بوجوه، قال: (أما أولا) فلأن مذهب الشيخ أن كلامه تعالى واحد، وليس بأمر ولا نهي، ولا خبر، وإنما يصير أحد هذه الأمور بحسب التعلق، وهذه الأوصاف لا تنطبق على الكلام اللفظي، وإنما يصح تطبيقه على المعنى المقابل للفظ بضرب من التكلف، (وأما ثانيا) فلأن كون الحروف والألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتب يفضي إلى كون الأصوات مع كونها أعراضا سيالة موجودة بوجود لا تكون فيه سيالة، وهو سفسطة من قبيل أن يقال: الحركة توجد في بعض الموضوعات من غير ترتب، وتعاقب بين أجزائها، (وأما ثالثا) فلأنه يؤدي إلى أن يكون الفرق بين ما يقوم بالقارئ من الألفاظ وبين ما يقوم بذاته تعالى باجتماع الأجزاء وعدم اجتماعها بسبب قصور الآلة، فنقول: هذا الفرق إن أوجب اختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته من جنس الألفاظ، وإن لم يوجب، وكان ما يقوم بالقارئ وما يقوم بذاته تعالى حقيقة واحدة، والتفاوت بينهما إنما يكون باجتماعه
[ ص: 13 ] وعدمه اللذين هما من عوارض الحقيقة الواحدة، كان بعض صفاته الحقيقية مجانسا لصفات المخلوقات.
(وأما رابعا) فلأن لزوم ما ذكره من المفاسد وهم، فإن تكفير من أنكر كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى إنما هو إذا اعتقد أنه من مخترعات البشر، أما إذا اعتقد أنه ليس كلام الله بمعنى أنه ليس بالحقيقة صفة قائمة بذاته بل هو دال على الصفة القائمة بذاته، لا يجوز تكفيره أصلا كيف وهو مذهب أكثر
الأشاعرة ما خلا المصنف وموافقيه، وما علم من الدين من كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى حقيقة إنما هو بمعنى كونه دالا على ما هو كلام الله تعالى حقيقة لا على أنه صفة قائمة بذاته تعالى، وكيف يدعي أنه من ضروريات الدين مع أنه خلاف ما نقله عن الأصحاب، وكيف يزعم أن هذا الجم الغفير من
الأشاعرة أنكروا ما هو من ضروريات الدين حتى يلزم تكفيرهم حاشاهم عن ذلك، (وأما خامسا) فلأن الأدلة الدالة على النسخ لا يمكن حملها على التلفظ بل ترجع إلى الملفوظ، كيف وبعضها مما لا يتعلق النسخ بالتلفظ به كما نسخ حكمه وبقي تلاوته انتهى، (والجواب) أما عن الأول فهو أن الحق عز اسمه له كلام بمعنى التكلم، وكلام بمعنى المتكلم به، وما هو أمر واحد، المعنى الأول وهو صفة واحدة تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به من الكتب، والكلمات، وأنها ليست من جنس الحروف والألفاظ أصلا، لا الحقيقية ولا الحكمية، وما ذكر في الاعتراض ينطبق عليه بلا كلفة، (والدليل) على أن المنعوت بهذه الأوصاف عند الشيخ هو المعنى الأول، نقل الإمام أن الكلام الأزلي لم يزل متصفا بكونه أمرا نهيا خبرا، ولا شك أن هذه أقسام المتكلم به، وكل من كان قائلا بانقسام الثاني كان المنعوت بالوحدة ذاتا، والتعدد تعلقا، المعنى الأول عنده جمعا بين الكلامين، (وأما) عن الثاني فهو أن ذلك إنما يلزم إذا أريد من اللفظ الحقيقي، وأما إذا أريد النفسي الحكمي فلا ورود له، لأن الألفاظ النفسية كلها مجتمعة الأجزاء في الوجود العلمي مع كونها مترتبة كما ذكره هو نفسه، وكلام صاحب المواقف محتمل للتأويل كما تقدم، فليحمل عليه سعيا بالإصلاح مهما أمكن، (وأما) الثالث فهو أن الإيراد مبني على ظن أن المراد باللفظ الحقيقي مع أنه محتمل لأن يراد النفسي كما يقتضيه ظاهر تشبيهه بالقائم بنفس الحافظ، (وأما) الرابع فهو أن الكلام النفسي عند أهل الحق هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى، ولكن ظاهر كلام صاحب المواقف يدل على أنه فهم من ظاهر كلام بعض الأصحاب أن مرادهم بالمعنى هو المقابل للفظ مجردا عن اللفظ مطلقا، وقد سمعهم يقولون: إن الكلام اللفظي ليس كلامه تعالى حقيقة بل مجازا، فإذا انضم قولهم بنفي كونه كلاما حقيقة شرعية إلى قولهم في ظنه أن النفسي هو المعنى المقابل للفظ لزم من هذا ما هو في معنى القول بكون اللفظي من مخترعات البشر، ولا يخفى استلزامه للمفاسد، ولكن لم يريدوا بالمجاز الشرعي، فإن إطلاق كلام الله تعالى المسموع متواتر، فلا يتأتى نفيه لأحد، بل المراد أن الكلام إنما يتبادر منه ما هو وصف للمتكلم، وقائم به قياما يقتضيه حقيقة الكلام، وذات المتكلم في الحق، والخلق على الوجه اللائق بكل، وأما ما يتلى فهو حروف عارضة للصوت الحادث، ولا شك أنه ليس قائما بذاته سبحانه من حيث هو هو، بل هو صورة من صور كلامه القديم القائم به تعالى، ومظهر تنزلاته، فهو دال على الحقيقي القائم فسمي كلاما حقيقة شرعية لذلك وفيه إطلاق لاسم الحقيقة على الصورة، فيكون مجازا من هذا الوجه، وإلى هذا يشير كلام التفتازاني فلا يلزم شيء من المفاسد، واعتراض صاحب المواقف مبني على ظنه، (وأما الخامس) فهو أن كلام صاحب المواقف ليس نصافي أن الضمير راجع إلى التلفظ، بل يحتمل أن يكون راجعا إلى الملفوظ، وذلك أنه قال المعنى الذي
[ ص: 14 ] في النفس لا ترتب فيه كما هو قائم بنفس الحافظ، ولا ترتب فيه، وقد مر أن المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى كما يقتضيه ظاهر التشبيه بالقائم بنفس الحافظ، ولا شك أنه لا ترتب فيه أي لا تعاقب فيه في الوجود العلمي، وحينئذ فقولهم: نعم، الترتب إنما يحصل في التلفظ معناه أن الترتب في المعنى النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى إنما يحصل في التلفظ الخارجي لضرورة عدم مساعدة الآلة، فقوله : وهو الذي هو حادث أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي الذي هو الصورة حادث لا اللفظ النفسي، وتحمل الأدلة التي تدل على الحدوث على حدوثه أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي، وعلى هذا لا ورود للاعتراض أصلا، (ومنهم) من اعترض أيضا بأنهم اشتركوا في المعجزة أن تكون فعل الله تعالى، أو ما يقوم مقامه، كالنزول فلا يكون القرآن اللفظي الذي هو معجزة قديما صفة له تعالى، ولا يخفى أن المعجزة هو القرآن في مرتبة تنزله إلى الألفاظ الحقيقية العربية، فكونه لفظا حقيقيا عربيا مجعول بالنص فيكون معجزة بلا شبهة، والقديم على ما حقق هو القرآن اللفظي النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى، وهذا واضح لمن ساعدته العناية، وقد شنع على الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري في هذا المقام أقوام تشابهت قلوبهم، واتحدت أغراضهم، وإن اختلفت أساليبهم، وها أنا بحوله تعالى راد لاعتراضاتهم بعد نقلها غير هياب، ولا وكل، وإن اتسع علم أهلها، فالبعوضة قد تدمي مقلة الأسد، وفضل الله تعالى ليس مقصورا على أحد.
(فأقول): قال تلميذ مولانا
الدواني عفيف الدين الإيجي ما حاصله أن هذا الذي تدعيه
الأشاعرة من أن للكلام معنى آخر يسمى النفسي باطل، فإنا إذا قلنا: زيد قائم، فهناك أربعة أشياء: (الأول) العبارة الصادرة عنه، (والثاني) مدلول هذه العبارة وما وضع له هذه الألفاظ من المعاني المقصودة بها، (الثالث) علمه بثبوت تلك النسبة وانتفائها، (الرابع) ثبوت تلك النسبة وانتفاؤها في الواقع، والأخيران ليسا كلاما اتفاقا، والأول لا يمكن أن يكون كلام الله حقيقة على مذهبهم، فبقي الثاني، وكذا نقول في الأمر والنهي ههنا ثلاثة أمور، (الأول) الإرادة والكراهة الحقيقية، (الثاني) اللفظ الصادر عنه، (الثالث) مفهوم لفظه ومعناه، والأول ليس كلاما اتفاقا، والثاني كذلك على مذهبهم، فبقي الثالث وبه صرح أكثر محققيهم، وكونه كلاما نفسيا ثابتا لله تعالى شأنه محكوما عليه بأحكام مختلفة باطل من وجوه، (الأول) أنه مخالف للعرف، واللغة، فإن الكلام فيهما ليس إلا المركب من الحروف، (الثاني) أنه لا يوافق الشرع إذ قد ورد فيما لا يحصى كتابا وسنة أن الله تعالى ينادي عباده، ولا ريب أن النداء لا يكون إلا بصوت، بل قد صرح به في الأخبار الصحيحة، وباب المجاز وإن لم يغلق بعد إلا أن حمل ما يزيد على نحو مائة ألف من الصرائح على خلاف معناه مما لا يقبله العقل السليم، (الثالث) أن ما قالوه من كون هذا المعنى النفسي واحدا يخالف العقل، فإنه لا شك أن مدلول اللفظ في الأمر يخالف مدلوله في النهي، ومدلول الخبر يخالف مدلول الإنشاء، بل مدلول أمر مخصوص غير مدلول أمر آخر، وكذا في الخبر، ولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن، وسائر الكتب السماوية، فيلزم أن يكون كل واحد مشتملا على ما اشتمل عليه الآخر، وليس كذلك، وكيف يكون معنى واحد خبرا وإنشاء محتملا للتصديق والتكذيب، وغير محتمل، وهو جمع بين النفي والإثبات انتهى.
ولا يخفى أن مبنى جميع اعتراضاته على فهمه أن مرادهم بالمعنى النفسي هو مدلول اللفظ وحده، أي المعنى المجرد عن مقارنة اللفظ مطلقا، ولو حكميا، وقد عرفت أنه ليس كذلك، بل المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى، وهو الذي يدور
[ ص: 15 ] في الخلد، وتدل عليه العبارات كما صرح به
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين، وعليه إذا قال القائل: زيد قائم، فهناك أربعة أشياء كما ذكر المعترض، وشيء خامس تركه، وهو المراد، وهي هذه الجملة بشرط وجودها في الذهن بألفاظ مخيلة ذهنية دالة على معانيها في النفس، وهذا يعنونه بالكلام النفسي، فلا محذور، ونقول على سبيل التفصيل (أما الأول) فجوابه أنه إنما تتم المخالفة إذا لم يكن عندهم مجموع اللفظ النفسي والمعنى، فحيث كان لا مخالفة لأن الكلام حينئذ مركب من الحروف إلا أنها نفسية غيبية في الحق خيالية في الخلق، (وأما الثاني) فجوابه أن هذا الذي لا يحصى ليس فيه سوى أن الحق سبحانه وتعالى متكلم بكلام حروفه عارضة للصوت لا أنه لا يتكلم إلا به، فلا ينتهض ما ذكر حجة على الشيخ، بل إذا أمعنت النظر رأيت ذلك حجة له، حيث بين أن الله تعالى لا يتكلم بالوحي لفظا حقيقيا إلا على طبق ما في علمه، وكلما كان كذلك كان الكلام اللفظي صورة من صور الكلام النفسي، ودليلا من أدلة ثبوتها، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.