فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وقرئ: (يا ربنا) بطروا النعمة، وسئموا أطيب العيش، وملوا العافية، فطلبوا الكد والتعب، كما طلب بنو إسرائيل الثوم والبصل، مكان المن والسلوى. وقالوا: لو كان جنى جناننا أبعد لكان أجدر أن نشتهيه، وسألوا أن يجعل الله تعالى بينهم وبين
الشام مفاوز وقفارا ليركبوا فيها الرواحل، ويتزودوا الأزواد، ويتطاولوا فيها على الفقراء. فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة، وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب. وقرئ: بعد وربنا: بعد بين أسفارنا، وبعد بين أسفارنا، على النداء، وإسناد الفعل إلى بين، ورفعه به. كما يقال: سير فرسخان، وبوعد بين أسفارنا. وقرئ: ربنا (باعد بين أسفارنا) و (بين سفرنا). و "بعد" برفع "ربنا" على الابتداء، والمعنى على خلاف الأول، وهو استبعاد مسايرهم مع قصرها، أو دنوها، وسهولة سلوكها لفرط تنعمهم، وغاية ترفههم، وعدم اعتدادهم بنعم الله تعالى كأنهم يتشاجون على الله تعالى، ويتحازنون عليه.
وظلموا أنفسهم حيث عرضوها للسخط والعذاب، حين بطروا النعمة أو غمطوها.
فجعلناهم أحاديث أي: جعلناهم بحيث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم، ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم.
ومزقناهم كل ممزق أي: فرقناهم كل تفريق على أن الممزق مصدر، أو كل مطرح ومكان تفريق، على أنه اسم مكان. وفي عبارة التمزيق الخاص بتفريق المتصل وخرفه من تهويل الأمر، والدلالة على شدة التأثير، والإيلام ما لا يخفى، أي: مزقناهم تمزيقا لا غاية وراءه بحيث يضرب به الأمثال في كل فرقة ليس بعدها وصال، حتى لحق
غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان. وأصل قصتهم على ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15097الكلبي عن
أبي صالح أن
عمرو بن عامر من أولاد
سبأ، وبينهما اثني عشر أبا. وهو الذي يقال له:
مزيقيا بن ماء السماء أخبرته
طريفة الكاهنة بخراب
سد مأرب، وتفريق سيل العرم الجنتين. وعن
أبي زيد الأنصاري أن
عمرا رأى جرزا يفر السد، فعلم أنه لا بقاء له بعد، وقيل: إنه كان كاهنا، وقد علمه بكهانته، فباع أملاكه، وسار بقومه، - وهم ألوف - من بلد إلى بلد حتى انتهى إلى
مكة المعظمة وأهلها جرهم، وكانوا قهروا الناس، وحازوا ولاية البيت على بني
إسمعيل عليه السلام وغيرهم. فأرسل إليهم
ثعلبة بن عمرو ابن عامر يسألهم المقام معهم إلى أن يرجع إليه رواده الذين أرسلهم إلى أصقاع البلاد يطلبون له موضعا
[ ص: 130 ] يسعه، ومن معه من قومه فأبوا، فاقتتلوا ثلاثة أيام فانهزمت جرهم، ولم يفلت منهم إلا الشريد، وأقام
ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا. فأصابتهم الحمى فاضطروا إلى الخروج، وقد رجع إليه رواده، فافترقوا فرقتين. فرقة توجهت نحو
عمان وهم
الأزد، وكندة، وحمير، ومن يتلوهم. وسار
ثعلبة نحو
الشام فنزل
الأوس والخزرج ابنا
حارثة بن ثعلبة بالمدينة ، وهم
الأنصار. ومضت
غسان فنزلوا
بالشام، وانخزعت
خزاعة بمكة فأقام بها
ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وهو لحي. فولي أمر
مكة وحجابة البيت، ثم جاءهم أولاد
إسماعيل عليه السلام. فسألوهم السكنى معهم وحولهم، فأذنوا لهم في ذلك. وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما
أن فروة بن مسيك الغطيفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ. فقال صلى الله عليه وسلم: «هو رجل كان له عشرة أولاد، ستة منهم سكنوا اليمن، وهم مذحج وكندة والأزد والأشعريون وحمير وأنمار منهم بجيلة وخثعم، وأربعة منهم سكنوا الشام، وهم لخم وجذام وعاملة وغسان لما هلكت أموالهم، وخربت بلادهم تفرقوا أيدي سبأ شذر مذر. فنزلت طوائف منهم بالحجاز. فمنهم خزاعة نزلوا بظاهر مكة ، ونزلت الأوس والخزرج بيثرب. فكانوا أول من سكنها، ثم نزل عندهم ثلاث قبائل من اليهود، بنو قينقاع وبنو قريظة والنضير، فحالفوا الأوس والخزرج، وأقاموا عندهم. ونزلت طوائف أخر منهم بالشأم، وهم الذين تنصروا فيما بعد، وهم غسان وعاملة ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم، وسبأ تجمع هذه القبائل كلها. والجمهور على أن جميع
العرب قسمان قحطانية وعدنانية. والقحطانية شعبان:
سبأ وحضر موت. والعدنانية شعبان:
ربيعة ومضر. وأما
قضاعة فمختلف فيها بعضهم ينسبونها إلى
قحطان، وبعضهم إلى
عدنان» والله تعالى أعلم.
إن في ذلك أي: فيما ذكر من قصتهم
لآيات عظيمة
لكل صبار شكور أي: شأنه الصبر عن الشهوات ودواعي الهوى، وعلى مشاق الطاعات، والشكر على النعم، وتخصيص هؤلاء بذلك; لأنهم المنتفعون بها.