قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين قال فإنها ; أي :
الأرض المقدسة ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء .
محرمة عليهم تحريم منع لا تحريم تعبد ، لا يدخلونها ولا يملكونها ; لأن كتابتها لهم كانت مشروطة بالإيمان والجهاد ، وحيث نكصوا على أدبارهم حرموا ذلك وانقلبوا خاسرين .
وقوله تعالى :
أربعين سنة إن جعل ظرفا لمحرمة يكون التحريم موقتا لا مؤبدا ، فلا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى :
كتب الله لكم ، فالمراد بتحريمها عليهم : أنه لا يدخلها أحد منهم في هذه المدة ، لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها ، بل بعضهم ممن بقي حسبما روي أن
موسى عليه السلام سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى
أريحا ، وكان
يوشع بن نون على مقدمته ، ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ، ثم قبض عليه السلام . وقيل : لم يدخلها أحد ممن قال : لن ندخلها أبدا ، وإنما دخلها مع
موسى عليه السلام النواشي من ذرياتهم ، فالموقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم ، وإنما جعل تحريمها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة المتاخمة للاتحاد .
وقوله تعالى :
يتيهون في الأرض ; أي : يتحيرون في البرية ، استئناف لبيان كيفية حرمانهم ، أو حال من ضمير عليهم . وقيل : ظرف متعلق بيتيهون ، فيكون التيه موقتا والتحريم مطلقا . قيل : كانوا ستمائة ألف مقاتل ، وكان طول البرية تسعون فرسخا ، وقد تاهوا في ستة فراسخ ، أو تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا ، وقيل : في ستة فراسخ في اثني عشر فرسخا . روي أنهم كانوا كل يوم يسيرون جادين حتى إذا أمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا ، وكان الغمام يظلهم من حر الشمس ، ويطلع بالليل عمود من نور يضيء لهم ، وينزل عليهم المن والسلوى ، ولا تطول شعورهم ، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله ، وهذه الإنعامات عليهم مع أنهم معاقبون ، لما أن عقابهم كان بطريق العرك والتأديب . قيل : كان
موسى وهارون معهم ، ولكن
[ ص: 26 ] كان ذلك لهما روحا وسلامة ، كالنار
لإبراهيم وملائكة العذاب عليهم السلام . وروي أن
هارون مات في التيه ، ومات
موسى بعده فيه بسنة ، ودخل
يوشع أريحا بعد موته بثلاثة أشهر ، ولا يساعده ظاهر النظم الكريم ، فإنه تعالى بعد ما قبل دعوته على بني إسرائيل وعذبهم بالتيه ، بعيد أن ينجي بعض المدعو عليهم أو ذراريهم ، ويقدر وفاتهما في محل العقوبة ظاهرا ، وإن كان ذلك لهما منزل روح وراحة . وقد قيل : إنهما لم يكونا معهم في التيه ، وهو الأنسب بتفسير الفرق بالمباعدة ، ومن قال : بأنهما كانا معهم فيه ، فقد فسر الفرق بما ذكر من الحكم بما يستحقه كل فريق .
فلا تأس فلا تحزن ،
على القوم الفاسقين روي أنه عليه السلام ندم على دعائه عليهم ، فقيل : لا تندم وتحزن فإنهم أحقاء بذلك لفسقهم .