ثم يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن
استحلال حرمات الله :
يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله. ولا الشهر الحرام. ولا الهدي. ولا القلائد. ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا. وإذا حللتم فاصطادوا.. .
وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى "شعائر الله " في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج أو العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى
البيت الحرام ; فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه ; لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر . وقد نسبها السياق
[ ص: 838 ] القرآني إلى الله تعظيما لها ، وتحذيرا من استحلالها .
والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم ; وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم . وقد
حرم الله فيها القتال - وكانت
العرب قبل الإسلام تحرمها - ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء ; فينسئونها أي : يؤجلونها - بفتوى بعض الكهان ، أو بعض زعماء القبائل القوية ! من عام إلى عام . فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها ، وأقام هذه الحرمة على أمر الله ، يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة :
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم. ذلك الدين القيم.. وقرر أن
النسيء زيادة في الكفر . واستقام الأمر فيها على أمر الله . . ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين ، فإن لهم حينئذ أن يردوا الاعتداء ; وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم - وهم لا يرعون حرمتها - ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين ، ثم يذهبون ناجين ! وبين الله حكم
القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة .
والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر ; وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة ، فينهي بها شعائر حجه أو عمرته . وهي ناقة أو بقرة أو شاة . . وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له ; ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة . ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء ; بل يجعلها كلها للفقراء .
والقلائد . وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها - أي يضعون في رقبتها قلادة - علامة على نذرها لله ; ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه - ومنها الهدي الذي يشعر ; أي : يعلم بعلامة الهدي ويطلق إلى موعد النحر - فهذه القلائد يحرم إحلالها بعد تقليدها ; فلا تنحر إلا لما جعلت له . . وكذلك قيل : إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره ; فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به ، وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان ، وأصحاب هذا القول قالوا : إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد :
إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا .. وقوله:
فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم .. وقوله : . . والأظهر القول الأول ; وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله ; وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدي المقلد للنحر للحج أو العمرة ، للمناسبة بين هذا وذاك .
كذلك حرم الله آمين
البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . وهم الذين يقصدون
البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله . . حجاجا أو غير حجاج . . وأعطاهم الأمان في حرمة
بيته الحرام .
ثم
أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام ، في غير البيت الحرام ، فلا صيد في
البيت الحرام :
وإذا حللتم فاصطادوا . .
إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام ; كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم . . منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى . وأن يروعها العدوان . . إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت ; استجابة لدعوة
إبراهيم - أبي هذه الأمة الكريم - ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام - في ظل الإسلام - وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه ; ليحرص عليه - بشروطه - وليحفظ عقد الله وميثاقه ، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام ، وفي كل مكان . .
وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان ، يدعو الله الذين آمنوا به ، وتعاقدوا معه ، أن يفوا بعقدهم ; وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم . . دور القوامة على البشرية ; بلا تأثر بالمشاعر الشخصية ، والعواطف
[ ص: 839 ] الذاتية ، والملابسات العارضة في الحياة . . يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن
المسجد الحرام في عام
الحديبية ; وقبله كذلك ; وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد ; وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض . فهذا كله شيء ; وواجب الأمة المسلمة شيء آخر . شيء يناسب دورها العظيم :
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. واتقوا الله، إن الله شديد العقاب . .
إنها قمة في ضبط النفس ; وفي سماحة القلب . . ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء .
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس . . التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام ، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام . وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة ; تجذب الناس إليه وتحببهم فيه .
وهو تكليف ضخم ; ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية ، ولا يحملها فوق طاقتها . فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب ، ومن حقها أن تكره . ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فورة الغضب ودفعة الشنآن . . ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى لا في الإثم والعدوان ; ويخوفها عقاب الله ، ويأمرها بتقواه ، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط ، وعلى التسامي والتسامح ، تقوى لله ، وطلبا لرضاه .
ولقد استطاعت التربية الإسلامية ، بالمنهج الرباني ، أن تروض نفوس
العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية ، والاعتياد لهذا السلوك الكريم . . وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه . . كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . . كانت حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية . كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى ; وكان الحلف على النصرة ، في الباطل قبل الحق . وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق . وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ; ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله . . يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . . وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى ، وهو يقول :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت ، وإن ترشد غزية أرشد
!
ثم جاء الإسلام . . جاء المنهج الرباني للتربية . . جاء ليقول للذين آمنوا :
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. واتقوا الله، إن الله شديد العقاب . .
جاء ليربط القلوب بالله ; وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله . جاء ليخرج
العرب - ويخرج البشرية كلها - من حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية ، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء . .
وولد "الإنسان " من جديد في
الجزيرة العربية . . ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله . . وكان هذا هو المولد الجديد
للعرب ; كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض . . ولم يكن قبل الإسلام في
الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء !
[ ص: 840 ] والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية ، وأفق الإسلام هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . وقول الله العظيم :
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان .
وشتان شتان !