قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم [ ص: 1108 ] لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون
هذه الموجة عودة إلى "حقيقة الألوهية " بعد بيان "حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول " في الموجة السابقة لها في السياق المتلاحم ; وبعد استبانة سبيل المجرمين واستبانة سبيل المؤمنين كما ذكرنا ذلك في نهاية الفقرة السابقة .
وحقيقة الألوهية في هذه الموجة تتجلى في مجالات شتى ; نجملها هنا قبل تفصيلها في استعراض النصوص القرآنية :
تتجلى في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يجد في نفسه بينة من ربه ، هو منها على يقين ، لا يزعزعه تكذيب المكذبين . ومن ثم يخلص نفسه لربه ، ويفاصل قومه مفاصلة المستيقن من ضلالهم يقينه من هداه
قل: إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله. قل: لا أتبع أهواءكم، قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل: إني على بينة من ربي وكذبتم به. ما عندي ما تستعجلون به، إن الحكم إلا لله، يقص الحق وهو خير الفاصلين . .
وتتجلى في
حلم الله على المكذبين ، وعدم استجابته لاقتراحاتهم أن ينزل عليهم خارقة مادية حتى لا يعجل لهم بالعذاب عند تكذيبهم بها - كما جرت سنته تعالى - وهو قادر عليه . ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك هذا الذي يستعجلون به ، ما أمسكه عنهم ، ولضاقت بشريته بهم وبتكذيبهم . فإمهالهم هذا الإمهال هو مظهر من مظاهر حلم الله ورحمته ، كما أنها مجال تتجلى فيه ألوهيته :
قل: لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم، والله أعلم بالظالمين . .
وتتجلى في علم الله بالغيب ; وإحاطة هذا العلم بكل ما يقع في هذا الوجود ; في صورة لا تكون إلا لله ; ولا يصورها هكذا إلا الله :
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين . .
وتتجلى في هيمنة الله على الناس وقهره للعباد في كل حالة من حالاتهم ، في النوم والصحو ، في الموت والحياة ، في الدنيا والآخرة :
وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار، ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى، ثم إليه مرجعكم، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده، ويرسل عليكم حفظة، [ ص: 1109 ] حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا، وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق. ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين .
وتتجلى في فطرة المكذبين أنفسهم ، حين يواجهون الهول ; فلا يدعون إلا الله لرفعه عنهم . . ثم هم مع ذلك يشركون ، وينسون أن الله ، الذي يدعونه لكشف الضر ، قادر على أن يذيقهم ألوان العذاب فلا يدفعه عنهم أحد :
قل: من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية: لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل: الله ينجيكم منها ومن كل كرب، ثم أنتم تشركون قل: هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم، أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض. انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون .
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله. قل لا أتبع أهواءكم. قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي - وكذبتم به - ما عندي ما تستعجلون به. إن الحكم إلا لله يقص الحق، وهو خير الفاصلين قل: لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم، والله أعلم بالظالمين . .
تحتشد هذه الموجة بالمؤثرات الموحية ، التي تتمثل في شتى الإيقاعات التي تواجه القلب البشري بحقيقة الألوهية في شتى مجاليها . . ومن بين هذه المؤثرات العميقة ، ذلك الإيقاع المتكرر : "قل . . قل . . قل . . " خطابا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبلغ عن ربه ، ما يوحيه إليه ; وما لا يملك غيره ; ولا يتبع غيره ; ولا يستوحي غيره :
قل: إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله. قل: لا أتبع أهواءكم. قد ضللت إذا، وما أنا من المهتدين . .
يأمر الله - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يواجه المشركين بأنه منهي من ربه عن عبادة الذين يدعونهم من دون الله ويتخذونهم أندادا لله . . ذلك أنه منهي عن اتباع أهوائهم - وهم إنما يدعون الذين يدعون من دون الله عن هوى لا عن علم ، ولا عن حق - وأنه إن يتبع أهواءهم هذه يضل ولا يهتدي . فما تقوده أهواؤهم وما تقودهم إلا إلى الضلال .
يأمر الله - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يواجه المشركين هذه المواجهة ، وأن يفاصلهم هذه المفاصلة ; كما أمره من قبل في السورة بمثل هذا وهو يقول :
أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أشهد. قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون . .
ولقد كان المشركون يدعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوافقهم على دينهم ، فيوافقوه على دينه ! وأن يسجد لآلهتهم فيسجدوا لإلهه ! كأن ذلك يمكن أن يكون ! وكأن الشرك والإسلام يجتمعان في قلب ! وكأن العبودية لله يمكن أن تقوم مع العبودية لسواه ! وهو أمر لا يكون أبدا . فالله أغنى الشركاء عن الشرك . وهو يطلب من عباده أن يخلصوا له العبودية ; ولا يقبل منهم عبوديتهم له إذا شابوها بشيء من العبودية لغيره . . في قليل أو كثير . .
ومع أن المقصود في الآية أن يواجههم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه منهي عن عبادة أي مما يدعون ويسمون من دون الله ، فإن التعبير بـ "الذين " في قوله تعالى :
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . .
[ ص: 1110 ] يستوقف النظر . فكلمة "الذين " تطلق على العقلاء . ولو كان المقصود هي الأوثان ، والأصنام ، وما إليها لعبر بـ "ما " بدل "الذين " . . فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعا آخر - مع الأصنام والأوثان وما إليها - نوعا من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصول : "الذين " فغلب العقلاء ، ووصف الجميع بوصف العقلاء . . وهذا الفهم يتفق مع الواقع من جهة ; ومع المصطلحات الإسلامية في هذا المقام من جهة :
فمن جهة الواقع نجد أن
المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها . ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس . . وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع وللأفراد . حيث يسنون لهم السنن ، ويضعون لهم التقاليد ; ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي . .
وهنا نصل إلى جهة المصطلحات الإسلامية . . فالإسلام يعتبر هذا شركا ; ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم ; وجعلهم أندادا من دون الله . . وينهى الله عنه نهيه عن السجود للأصنام والأوثان ; فكلاهما في عرف الإسلام سواء . . شرك بالله ، ودعوة أنداد من دون الله !
ثم يجيء الإيقاع الثاني موصولا بالإيقاع الأول ومتمما له :
قل: إني على بينة من ربي وكذبتم به، ما عندي ما تستعجلون به. إن الحكم إلا لله، يقص الحق، وهو خير الفاصلين . .
وهو أمر من الله - سبحانه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجهر في مواجهة المشركين المكذبين بربهم بما يجده في نفسه من اليقين الواضح الراسخ ، والدليل الداخلي البين ، والإحساس الوجداني العميق ، بربه . . ووجوده ، ووحدانيته ، ووحيه إليه . وهو الشعور الذي وجده الرسل من ربهم ، وعبروا عنه مثل هذا التعبير أو قريبا منه :
قالها
نوح - عليه السلام - :
قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم؟ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ . .
وقالها
صالح - عليه السلام - :
قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير . .
وقالها
إبراهيم - عليه السلام - :
وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني . .
وقالها
يعقوب - عليه السلام - لبنيه :
فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا. قال ألم أقل لكم: إني أعلم من الله ما لا تعلمون؟ . .
فهي
حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب أوليائه ; ممن يتجلى الله لهم في قلوبهم ; فيجدونه - سبحانه - حاضرا فيها ; ويجدون هذه الحقيقة بينة هنالك في أعماقهم تسكب في قلوبهم اليقين بها . وهي الحقيقة التي يأمر الله نبيه أن يجهر بها في مواجهة المشركين المكذبين ; الذين يطلبون منه الخوارق لتصديق ما جاءهم به من حقيقة ربه ، الحقيقة التي يجدها هو كاملة واضحة عميقة في قلبه :
قل إني على بينة من ربي، وكذبتم به . .
كذلك كانوا يطلبون أن ينزل عليهم خارقة أو ينزل بهم العذاب ، ليصدقوا أنه جاءهم من عند الله . . وكان يؤمر أن يعلن لهم حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول ; وأن يفرق فرقانا كاملا بينها وبين حقيقة الألوهية ; وأن يجهر بأنه لا يملك هذا الذي يستعجلونه ; فالذي يملكه هو الله وحده ; وهو ليس إلها ، إنما هو رسول :
[ ص: 1111 ] ما عندي ما تستعجلون به، إن الحكم إلا لله، يقص الحق وهو خير الفاصلين . .
إن إيقاع العذاب بهم بعد مجيء الخارقة وتكذيبهم بها حكم وقضاء ; ولله وحده الحكم والقضاء . فهو وحده الذي يقص الحق ويخبر به ; وهو وحده الذي يفصل في الأمر بين الداعي إلى الحق والمكذبين به . وليس هذا أو ذلك لأحد من خلقه .
وبذلك يجرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه من أن تكون له قدرة ، أو تدخل في شأن القضاء الذي ينزله الله بعباده . فهذا من شأن الألوهية وحدها وخصائصها ، وهو بشر يوحى إليه ، ليبلغ وينذر ; لا لينزل قضاء ويفصل . وكما أن الله سبحانه هو الذي يقص الحق ويخبر به ; فهو كذلك الذي يقضي في الأمر ويفصل فيه . . وليس بعد هذا تنزيه وتجريد لذات الله - سبحانه - وخصائصه ، عن ذوات العبيد . .
ثم يؤمر أن يلمس قلوبهم وعقولهم ويلفتها إلى دلالة قوية على أن هذا الأمر من عند الله ، ومتروك لمشيئة الله . فلو أن أمر الخوارق - بما فيها إنزال العذاب - في مقدوره - وهو بشر - ما استطاع أن يمسك نفسه عن الاستجابة لهم ، وهم يلحفون هذا الإلحاف . ولكن لأن الأمر بيد الله وحده ، فهو يحلم عليهم ; فلا يجيئهم بخارقة يتبعها العذاب المدمر ، إن هم كذبوا بها كما فعل بمن قبلهم :
قل: لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم، والله أعلم بالظالمين . .
إن للطاقة البشرية حدودا في الصبر والحلم والإمهال . وما يحلم على البشر ويمهلهم - على عصيانهم وتمردهم وتبجحهم - إلا الله الحليم القوي العظيم . .
وصدق الله العظيم . . فإن الإنسان ليرى من بعض الخلق ما يضيق به الصدر ، وتبلغ منه الروح الحلقوم . . ثم ينظر فيجد الله - سبحانه - يسعهم في ملكه ، ويطعمهم ، ويسقيهم ، ويغدق أحيانا عليهم ، ويفتح عليهم أبواب كل شيء . . وما يجد الإنسان إلا أن يقول قولة
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر - رضي الله عنه - والمشركون يضربونه الضرب المبرح الغليظ ، حتى ما يعرف له أنف من عين : "رب ما أحلمك ! رب ما أحلمك ! " . . فإنما هو حلم الله وحده . . وهو يستدرجهم من حيث لا يعلمون !
والله أعلم بالظالمين . .
فهو يمهلهم عن علم ، ويملي لهم عن حكمة ، ويحلم عليهم وهو قادر على أن يجيبهم إلى ما يقترحون ، ثم ينزل بهم العذاب الأليم . .