[ ص: 1105 ] فحسبنا هذا القدر هنا . . وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها ، وتسكبها في القلوب المستنيرة .
nindex.php?page=treesubj&link=28977_29785nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وكذلك نفصل الآيات، ولتستبين سبيل المجرمين . .
ختام هذه الفقرة التي قدمت طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول في هذه النصاعة الواضحة . كما قدمت هذه العقيدة عارية من كل زخرف ; وفصلت الاعتبارات والقيم التي جاءت هذه العقيدة لتلغيها من حياة البشرية ; والاعتبارات والقيم التي جاءت لتقررها . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وكذلك نفصل الآيات . .
بمثل هذا المنهج ، وبمثل هذه الطريقة ، وبمثل هذا البيان والتفصيل . . نفصل الآيات ، التي لا تدع في هذا الحق ريبة ; ولا تدع في هذا الأمر غموضا ; ولا تبقى معها حاجة لطلب الخوارق ; فالحق واضح ، والأمر بين ، بمثل ذلك المنهج الذي عرض السياق القرآني منه ذلك النموذج . .
على أن كل ما سبق في السورة من تفصيل لدلائل الهدى وموحيات الإيمان ; ومن بيان للحقائق وتقرير للوقائع ، يعتبر داخلا في مدلول قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وكذلك نفصل الآيات . .
أما ختام هذه الآية القصيرة :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55ولتستبين سبيل المجرمين . .
فهو شأن عجيب ! . . إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة ! إن هذا المنهج لا يعنى ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب . إنما يعنى كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضا . . إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين . وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق !
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية . . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر ; والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص ; وأن ذلك حق ممحض وخير خالص . . كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ; ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوا منهم
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=31وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين . . ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين ، أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون ; عن ثقة ، وفي وضوح ، وعن يقين .
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد
[ ص: 1106 ] غبشا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان متقابلتان ، وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . .
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ; ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين ، في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم ، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين . .
وهذا التحديد كان قائما ، وهذا الوضوح كان كاملا ، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في
الجزيرة العربية فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين !
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعدما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة ، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس !
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين ، في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للسلام ، يسيطر عليها دين الله ، وتحكم بشريعته . . ثم إذا هذه الأرض ، وإذا هذه الأقوام ، تهجر الإسلام حقيقة ، وتعلنه اسما . وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا ! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله . . وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه . وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله ، ولم تدخل في الإسلام بعد . .
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين ; وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله ، ومدلول الإسلام في جانب ; وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . .
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين ، وطريق المشركين المجرمين ; واختلاط الشارات والعناوين ; والتباس الأسماء والصفات ; والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة . فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا . حتى يصبح
[ ص: 1107 ] الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! . . تهمة تكفير "المسلمين " ! ! ! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم ، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله ! هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل !
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف ; وألا تقعدهم عنها لومة لائم ، ولا صيحة صائح : انظروا ! إنهم يكفرون المسلمين !
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون ! إن الإسلام بين والكفر بين . . الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو ; ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو ، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وكذلك نفصل الآيات، ولتستبين سبيل المجرمين . .
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة ; وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة ; كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة ، ولا يعوقها غبش ، ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون " وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون " . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق ، وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين . .
. . وصدق الله العظيم . .
[ ص: 1105 ] فَحَسْبُنَا هَذَا الْقَدْرُ هُنَا . . وَحَسْبُنَا الْإِيحَاءَاتُ الْقَوِيَّةُ الْعَمِيقَةُ الَّتِي تَفِيضُ بِهَا النُّصُوصُ ذَاتُهَا ، وَتَسْكُبُهَا فِي الْقُلُوبِ الْمُسْتَنِيرَةِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28977_29785nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ، وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ . .
خِتَامُ هَذِهِ الْفِقْرَةِ الَّتِي قَدَّمَتْ طَبِيعَةَ الرِّسَالَةِ وَطَبِيعَةَ الرَّسُولِ فِي هَذِهِ النَّصَاعَةِ الْوَاضِحَةِ . كَمَا قَدَّمَتْ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ عَارِيَةً مِنْ كُلِّ زُخْرُفٍ ; وَفَصَّلَتِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالْقِيَمَ الَّتِي جَاءَتْ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ لِتُلْغِيَهَا مِنْ حَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ ; وَالِاعْتِبَارَاتِ وَالْقِيَمَ الَّتِي جَاءَتْ لِتُقَرِّرَهَا . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ . .
بِمِثْلِ هَذَا الْمَنْهَجِ ، وَبِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ، وَبِمِثْلِ هَذَا الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ . . نُفَصِّلُ الْآيَاتِ ، الَّتِي لَا تَدَعُ فِي هَذَا الْحَقِّ رِيبَةً ; وَلَا تَدَعُ فِي هَذَا الْأَمْرِ غُمُوضًا ; وَلَا تَبْقَى مَعَهَا حَاجَةٌ لِطَلَبِ الْخَوَارِقِ ; فَالْحَقُّ وَاضِحٌ ، وَالْأَمْرُ بَيِّنٌ ، بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَنْهَجِ الَّذِي عَرَضَ السِّيَاقُ الْقُرْآنِيُّ مِنْهُ ذَلِكَ النَّمُوذَجَ . .
عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فِي السُّورَةِ مِنْ تَفْصِيلٍ لِدَلَائِلِ الْهُدَى وَمُوحِيَاتِ الْإِيمَانِ ; وَمِنْ بَيَانٍ لِلْحَقَائِقِ وَتَقْرِيرٍ لِلْوَقَائِعِ ، يُعْتَبَرُ دَاخِلًا فِي مَدْلُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ . .
أَمَّا خِتَامُ هَذِهِ الْآيَةِ الْقَصِيرَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ . .
فَهُوَ شَأْنٌ عَجِيبٌ ! . . إِنَّهُ يَكْشِفُ عَنْ خُطَّةِ الْمَنْهَجِ الْقُرْآنِيِّ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْحَرَكَةِ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ ! إِنَّ هَذَا الْمَنْهَجَ لَا يُعْنَى بِبَيَانِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِهِ حَتَّى تَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ فَحَسْبُ . إِنَّمَا يُعْنَى كَذَلِكَ بِبَيَانِ الْبَاطِلِ وَكَشْفِهِ حَتَّى تَسْتَبِينَ سَبِيلُ الضَّالِّينَ الْمُجْرِمِينَ أَيْضًا . . إِنَّ اسْتِبَانَةَ سَبِيلِ الْمُجْرِمِينَ ضَرُورِيَّةٌ لِاسْتِبَانَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ . وَذَلِكَ كَالْخَطِّ الْفَاصِلِ يُرْسَمُ عِنْدَ مَفْرِقِ الطَّرِيقِ !
إِنَّ هَذَا الْمَنْهَجَ هُوَ الْمَنْهَجُ الَّذِي قَرَّرَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لِيَتَعَامَلَ مَعَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ . . ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ أَنَّ إِنْشَاءَ الْيَقِينِ الِاعْتِقَادِيِّ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ يَقْتَضِي رُؤْيَةَ الْجَانِبِ الْمُضَادِّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ ; وَالتَّأَكُّدَ مِنْ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ مُمْحِضٌ وَشَرٌّ خَالِصٌ ; وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مُمْحِضٌ وَخَيْرٌ خَالِصٌ . . كَمَا أَنَّ قُوَّةَ الِانْدِفَاعِ بِالْحَقِّ لَا تَنْشَأُ فَقَطْ مِنْ شُعُورِ صَاحِبِ الْحَقِّ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ ; وَلَكِنْ كَذَلِكَ مِنْ شُعُورِهِ بِأَنَّ الَّذِي يُحَادُّهُ وَيُحَارِبُهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْبَاطِلِ . . وَأَنَّهُ يَسْلُكُ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ يَذْكُرُ اللَّهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْهُمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=31وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ . . لِيَسْتَقِرَّ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ وَنُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنَّ الَّذِينَ يُعَادُونَهُمْ إِنَّمَا هُمُ الْمُجْرِمُونَ ; عَنْ ثِقَةٍ ، وَفِي وُضُوحٍ ، وَعَنْ يَقِينٍ .
إِنَّ سُفُورَ الْكُفْرِ وَالشَّرِّ وَالْإِجْرَامِ ضَرُورِيٌّ لِوُضُوحِ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ . وَاسْتِبَانَةُ سَبِيلِ الْمُجْرِمِينَ هَدَفٌ مِنْ أَهْدَافِ التَّفْصِيلِ الرَّبَّانِيِّ لِلْآيَاتِ . ذَلِكَ أَنَّ أَيَّ غَبَشٍ أَوْ شُبْهَةٍ فِي مَوْقِفِ الْمُجْرِمِينَ وَفِي سَبِيلِهِمْ تَرْتَدُّ
[ ص: 1106 ] غَبَشًا وَشُبْهَةً فِي مَوْقِفِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي سَبِيلِهِمْ . فَهُمَا صَفْحَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ ، وَطَرِيقَانِ مُفْتَرِقَتَانِ . . وَلَا بُدَّ مِنْ وُضُوحِ الْأَلْوَانِ وَالْخُطُوطِ . .
وَمِنْ هُنَا يَجِبُ أَنْ تَبْدَأَ كُلُّ حَرَكَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ بِتَحْدِيدِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَبِيلِ الْمُجْرِمِينَ . يَجِبُ أَنْ تَبْدَأَ مِنْ تَعْرِيفِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيفِ سَبِيلِ الْمُجْرِمِينَ ; وَوَضْعِ الْعُنْوَانِ الْمُمَيِّزِ لِلْمُؤْمِنِينَ . وَالْعُنْوَانِ الْمُمَيِّزُ لِلْمُجْرِمِينَ ، فِي عَالَمِ الْوَاقِعِ لَا فِي عَالَمِ النَّظَرِيَّاتِ . فَيَعْرِفُ أَصْحَابُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْحَرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَنْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِمَّنْ حَوْلَهُمْ وَمَنْ هُمُ الْمُجْرِمُونَ . بَعْدَ تَحْدِيدِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْهَجِهِمْ وَعَلَامَتِهِمْ ، وَتَحْدِيدِ سَبِيلِ الْمُجْرِمِينَ وَمَنْهَجِهِمْ وَعَلَامَتِهِمْ . بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ السَّبِيلَانِ وَلَا يَتَشَابَهُ الْعُنْوَانَانِ ، وَلَا تَلْتَبِسُ الْمَلَامِحُ وَالسِّمَاتُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجْرِمِينَ . .
وَهَذَا التَّحْدِيدُ كَانَ قَائِمًا ، وَهَذَا الْوُضُوحُ كَانَ كَامِلًا ، يَوْمَ كَانَ الْإِسْلَامُ يُوَاجِهُ الْمُشْرِكِينَ فِي
الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَكَانَتْ سَبِيلُ الْمُسْلِمِينَ الصَّالِحِينَ هِيَ سَبِيلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ . وَكَانَتْ سَبِيلُ الْمُشْرِكِينَ الْمُجْرِمِينَ هِيَ سَبِيلُ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي هَذَا الدِّينِ . . وَمَعَ هَذَا التَّحْدِيدِ وَهَذَا الْوُضُوحِ كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ وَكَانَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُفَصِّلُ الْآيَاتِ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ الَّذِي سَبَقَتْ مِنْهُ نَمَاذِجُ فِي السُّورَةِ - وَمِنْهَا ذَلِكَ النَّمُوذَجُ الْأَخِيرُ - لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ !
وَحَيْثُمَا وَاجَهَ الْإِسْلَامُ الشِّرْكَ وَالْوَثَنِيَّةَ وَالْإِلْحَادَ وَالدِّيَانَاتِ الْمُنْحَرِفَةَ الْمُتَخَلِّفَةَ مِنَ الدِّيَانَاتِ ذَاتِ الْأَصْلِ السَّمَاوِيِّ بَعْدَمَا بَدَّلَتْهَا وَأَفْسَدَتْهَا التَّحْرِيفَاتُ الْبَشَرِيَّةُ . . حَيْثُمَا وَاجَهَ الْإِسْلَامُ هَذِهِ الطَّوَائِفَ وَالْمِلَلَ كَانَتْ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَاضِحَةً ، وَسَبِيلُ الْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ الْمُجْرِمِينَ وَاضِحَةً كَذَلِكَ . . لَا يُجْدِي مَعَهَا التَّلْبِيسُ !
وَلَكِنَّ الْمَشَقَّةَ الْكُبْرَى الَّتِي تُوَاجِهُ حَرَكَاتِ الْإِسْلَامِ الْحَقِيقِيَّةَ الْيَوْمَ لَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا . . إِنَّهَا تَتَمَثَّلُ فِي وُجُودِ أَقْوَامٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ سُلَالَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، فِي أَوْطَانٍ كَانَتْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ دَارًا لِلسَّلَامِ ، يُسَيْطِرُ عَلَيْهَا دِينُ اللَّهِ ، وَتَحْكُمُ بِشَرِيعَتِهِ . . ثُمَّ إِذَا هَذِهِ الْأَرْضُ ، وَإِذَا هَذِهِ الْأَقْوَامُ ، تَهْجُرُ الْإِسْلَامَ حَقِيقَةً ، وَتُعْلِنُهُ اسْمًا . وَإِذَا هِيَ تَتَنَكَّرُ لِمُقَوِّمَاتِ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا وَوَاقِعًا . وَإِنْ ظَنَّتْ أَنَّهَا تَدِينُ بِالْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا ! فَالْإِسْلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . . وَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَتَمَثَّلُ فِي الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ اللَّهَ - وَحْدَهُ - هُوَ خَالِقُ هَذَا الْكَوْنِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ . وَأَنَّ اللَّهَ - وَحْدَهُ - هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ بِالشَّعَائِرِ التَّعَبُّدِيَّةِ وَنَشَاطِ الْحَيَاةِ كُلِّهِ . وَأَنَّ اللَّهَ - وَحْدَهُ - هُوَ الَّذِي يَتَلَقَّى مِنْهُ الْعِبَادُ الشَّرَائِعَ وَيُخْضِعُونَ لِحُكْمِهِ فِي شَأْنِ حَيَاتِهِمْ كُلِّهِ . . وَأَيُّمَا فَرْدٍ لَمْ يَشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - بِهَذَا الْمَدْلُولِ - فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدُ . كَائِنًا مَا كَانَ اسْمُهُ وَلَقَبُهُ وَنَسَبُهُ . وَأَيُّمَا أَرْضٍ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - بِهَذَا الْمَدْلُولِ - فَهِيَ أَرْضٌ لَمْ تَدِنْ بِدِينِ اللَّهِ ، وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدُ . .
وَفِي الْأَرْضِ الْيَوْمَ أَقْوَامٌ مِنَ النَّاسِ أَسْمَاؤُهُمْ أَسْمَاءُ الْمُسْلِمِينَ ; وَهُمْ مِنْ سُلَالَاتِ الْمُسْلِمِينَ . وَفِيهَا أَوْطَانٌ كَانَتْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ دَارًا لِلسَّلَامِ . . وَلَكِنْ لَا الْأَقْوَامُ الْيَوْمَ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - بِذَلِكَ الْمَدْلُولِ - وَلَا الْأَوْطَانُ الْيَوْمَ تَدِينُ لِلَّهِ بِمُقْتَضَى هَذَا الْمَدْلُولِ . .
وَهَذَا أَشَقُّ مَا تُوَاجِهُهُ حَرَكَاتُ الْإِسْلَامِ الْحَقِيقِيَّةُ فِي هَذِهِ الْأَوْطَانِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ !
أَشَقُّ مَا تُعَانِيهِ هَذِهِ الْحَرَكَاتُ هُوَ الْغَبَشُ وَالْغُمُوضُ وَاللَّبْسُ الَّذِي أَحَاطَ بِمَدْلُولِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَمَدْلُولِ الْإِسْلَامِ فِي جَانِبٍ ; وَبِمَدْلُولِ الشِّرْكِ وَبِمَدْلُولِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ . .
أَشَقُّ مَا تُعَانِيهِ هَذِهِ الْحَرَكَاتُ هُوَ عَدَمُ اسْتِبَانَةِ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الصَّالِحِينَ ، وَطَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ الْمُجْرِمِينَ ; وَاخْتِلَاطُ الشَّارَاتِ وَالْعَنَاوِينِ ; وَالْتِبَاسُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ; وَالتِّيهِ الَّذِي لَا تَتَحَدَّدُ فِيهِ مَفَارِقُ الطَّرِيقِ !
وَيَعْرِفُ أَعْدَاءُ الْحَرَكَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ هَذِهِ الثُّغْرَةَ . فَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا تَوْسِيعًا وَتَمْيِيعًا وَتَلْبِيسًا وَتَخْلِيطًا . حَتَّى يُصْبِحَ
[ ص: 1107 ] الْجَهْرُ بِكَلِمَةِ الْفَصْلِ تُهْمَةً يُؤْخَذُ عَلَيْهَا بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ! . . تُهْمَةَ تَكْفِيرِ "الْمُسْلِمِينَ " ! ! ! وَيُصْبِحُ الْحُكْمُ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ مَسْأَلَةَ الْمَرْجِعِ فِيهَا لِعُرْفِ النَّاسِ وَاصْطِلَاحِهِمْ ، لَا إِلَى قَوْلِ اللَّهِ وَلَا إِلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ! هَذِهِ هِيَ الْمَشَقَّةُ الْكُبْرَى . . وَهَذِهِ كَذَلِكَ هِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَجْتَازَهَا أَصْحَابُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ جِيلٍ !
يَجِبُ أَنْ تَبْدَأَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ بِاسْتِبَانَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَبِيلِ الْمُجْرِمِينَ . . وَيَجِبُ أَلَّا تَأْخُذَ أَصْحَابُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ فِي كَلِمَةِ الْحَقِّ وَالْفَصْلِ هَوَادَةٌ وَلَا مُدَاهَنَةٌ . وَأَلَّا تَأْخُذَهُمْ فِيهَا خَشْيَةٌ وَلَا خَوْفٌ ; وَأَلَّا تُقْعِدَهُمْ عَنْهَا لَوْمَةَ لَائِمٍ ، وَلَا صَيْحَةَ صَائِحٍ : انْظُرُوا ! إِنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ !
إِنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِهَذَا التَّمَيُّعِ الَّذِي يَظُنُّهُ الْمَخْدُوعُونَ ! إِنَّ الْإِسْلَامَ بَيِّنٌ وَالْكُفْرَ بَيِّنٌ . . الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - بِذَلِكَ الْمَدْلُولِ - فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ ; وَمَنْ لَمْ يُقِمْهَا فِي الْحَيَاةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ ، فَحُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِ أَنَّهُ مِنَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ الْفَاسِقِينَ . . الْمُجْرِمِينَ . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ، وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ . .
أَجَلْ يَجِبُ أَنْ يَجْتَازَ أَصْحَابُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ هَذِهِ الْعَقَبَةَ ; وَأَنْ تَتِمَّ فِي نُفُوسِهِمْ هَذِهِ الِاسْتِبَانَةُ ; كَيْ تَنْطَلِقَ طَاقَاتُهُمْ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تَصُدُّهَا شُبْهَةٌ ، وَلَا يَعُوقُهَا غَبَشٌ ، وَلَا يُمَيِّعُهَا لَبْسٌ . فَإِنَّ طَاقَاتِهِمْ لَا تَنْطَلِقُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدُوا فِي يَقِينٍ أَنَّهُمْ هُمُ "الْمُسْلِمُونَ " وَأَنَّ الَّذِينَ يَقِفُونَ فِي طَرِيقِهِمْ وَيَصُدُّونَهُمْ وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هُمُ "الْمُجْرِمُونَ " . . كَذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَحْتَمِلُوا مَتَاعِبَ الطَّرِيقِ إِلَّا إِذَا اسْتَيْقَنُوا أَنَّهَا قَضِيَّةُ كُفْرٍ وَإِيمَانٍ . وَأَنَّهُمْ وَقَوْمَهُمْ عَلَى مَفْرِقِ الطَّرِيقِ ، وَأَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةٍ وَقَوْمَهُمْ عَلَى مِلَّةٍ . وَأَنَّهُمْ فِي دِينٍ وَقَوْمَهُمْ فِي دِينٍ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ . .
. . وَصَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ . .