وإلى عاد أخاهم هودا قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. إن أنتم إلا مفترون. يا قوم لا أسألكم عليه أجرا. إن أجري إلا على الذي فطرني. أفلا تعقلون؟ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين ..
[ ص: 1896 ] وكان
هود من
عاد . فهو أخوهم. واحد منهم، تجمعه - كانت - آصرة القربى العامة بين أفراد القبيلة الواحدة. وتبرز هذه الآصرة هنا في السياق، لأن من شأنها أن تقوم الثقة والتعاطف والتناصح بين الأخ وإخوته، وليبدو موقف القوم من أخيهم ونبيهم شاذا ومستقبحا! ثم لتقوم المفاصلة في النهاية بين القوم وأخيهم على أساس افتراق العقيدة. ويبرز بذلك معنى انقطاع الوشائج كلها حين تنقطع وشيجة العقيدة. لتتفرد هذه الوشيجة وتبرز في علاقات المجتمع الإسلامي، ثم لكي تتبين طبيعة هذا الدين وخطه الحركي.. فالدعوة به تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب والعشيرة والأرض... ثم تنتهي بالافتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد.. أمة مسلمة وأمة مشركة.. وبينهما فرقة ومفاصلة.. وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد الله بنصر المؤمنين وإهلاك المشركين. ولا يجيء وعد الله بهذا ولا يتحقق إلا بعد أن تتم المفاصلة، وتتم المفارقة، وتتميز الصفوف، وينخلع النبي والمؤمنون معه من قومهم، ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم، ويخلعوا ولاءهم لقومهم ولقيادتهم السابقة، ويعطوا ولاءهم كله لله ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى الله وإلى الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد.. وعندئذ فقط - لا قبله - يتنزل عليهم نصر الله..
وإلى عاد أخاهم هودا ..
أرسلناه إليهم كما أرسلنا نوحا إلى قومه في القصة السابقة.
قال: يا قوم ..
بهذا التودد، والتذكير بالأواصر التي تجمعهم، لعل ذلك يستثير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول. فالرائد لا يكذب أهله، والناصح لا يغش قومه.
" قال:
يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ..
القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا - كما أسلفنا - عن عبادة الله الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة. ولعل أول خطوة في هذا الانحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع
نوح! ثم تطور هذا التعظيم جيلا بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة; ثم تتطور هذه الأشياء فإذا هي معبودات، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة - في صورة من صور الجاهلية الكثيرة. ذلك أن الانحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق. الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير الله وحده ولا يدين بالعبودية إلا لله وحده.. الانحراف خطوة واحدة لا بد أن تتبعه مع الزمن خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا الله.
على أية حال لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون لله وحده بالعبودية، فإذا هو يدعوهم تلك الدعوة التي جاء بها كل رسول:
يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ..
مفترون فيما تعبدونه من دون الله، وفيما تدعونه من شركاء لله.
ويبادر
هود ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة، فليس له من ورائها هدف. وما يطلب على النصح والهداية أجرا. إنما أجره على الله الذي خلقه فهو به كفيل:
يا قوم لا أسألكم عليه أجرا. إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون؟ .
[ ص: 1897 ] مما يشعر أن قوله:
لا أسألكم عليه أجرا كان بناء على اتهام له أو تلميح بأنه يبتغي أجرا أو كسب مال من وراء الدعوة التي يدعوها. وكان التعقيب:
أفلا تعقلون؟ للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسولا من عند الله يطلب رزقا من البشر، والله الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوت هؤلاء الفقراء!
ثم يوجههم إلى
الاستغفار والتوبة. ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان خاتم الأنبياء، ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بآلاف السنين:
ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويزدكم قوة إلى قوتكم. ولا تتولوا مجرمين ..
استغفروا ربكم مما أنتم فيه، وتوبوا إليه فابدأوا طريقا جديدا يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق النية..
يرسل السماء عليكم مدرارا ..
وكانوا في حاجة إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء، ويحتفظون به بالخصب الناشئ من هطول الأمطار في تلك البقاع.
ويزدكم قوة إلى قوتكم ..
هذه القوة التي عرفتم بها..
ولا تتولوا مجرمين ..
مرتكبين لجريمة التولي والتكذيب.
وننظر في هذا الوعد. وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة. وهي أمور تجري فيها سنة الله وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود، من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال. فما علاقة الاستغفار بها وما علاقة التوبة؟
فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور، بل واقع مشهود، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة. يزيدانهم صحة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير وهدوء الأعصاب والاطمئنان إلى الله والثقة برحمته في كل آن; ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحرارا كراما لا يدينون لغير الله على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه.. كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض; غير مشغولين ولا مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول، والنفخ فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر!
والملحوظ دائما أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة.. أحيانا.. كل ذلك ليدين لها الناس! فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد! وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعباد وإلى جهد ينفقه من يدينون لله وحده في عمارة الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها، بدلا من أن ينفقه عباد الأرباب الأرضية في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة!
ولقد تتوافر القوة لمن لا يحكمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم، ولكنها قوة إلى حين. حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين. إنما استندت إلى
[ ص: 1898 ] جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج. وهذه وحدها لا تدوم. لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين.
فأما إرسال المطر مدرارا فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني. ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محييا في مكان وزمان، ومدمرا في مكان وزمان; وأن يكون من قدر الله أن تكون الحياة مع المطر لقوم، وأن يكون الدمار معه لقوم، وأن ينفذ الله تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية; فهو خالق هذه العوامل، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال. ثم تبقى وراء ذلك مشيئة الله الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر الله كيفما شاء. حيث شاء بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض غير مقيد بما عهده الناس في الغالب.
تلك كانت دعوة
هود - ويبدو أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة. ربما لأن الطوفان كان قريبا منهم، وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم، وقد ذكرهم به في سورة أخرى - فأما قومه فظنوا به الظنون..
قالوا. يا هود ما جئتنا ببينة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ... .
إلى هذا الحد بلغ الانحراف في نفوسهم، إلى حد أن يظنوا أن هودا يهذي، لأن أحد آلهتهم المفتراة قد مسه بسوء، فأصيب بالهذيان!
يا هود ما جئتنا ببينة ...
والتوحيد لا يحتاج إلى بينة، إنما يحتاج إلى التوجيه والتذكير، وإلى استجاشة منطق الفطرة، واستنباء الضمير.
وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ..
أي لمجرد أنك تقول بلا بينة ولا دليل!
وما نحن لك بمؤمنين ..
أي مستجيبين لك ومصدقين.. وما نعلل دعوتك إلا بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء!
وهنا لم يبق لهود إلا التحدي. وإلا التوجه إلى الله وحده والاعتماد عليه. وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين.
وإلا المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على التكذيب:
قال إني أشهد الله، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم. فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوما غيركم، ولا تضرونه شيئا، إن ربي على كل شيء حفيظ ..
إنها انتفاضة التبرؤ من القوم - وقد كان منهم وكان أخاهم - وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقا. وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة وقد أنبتت بينهما وشيجة العقيدة.
[ ص: 1899 ] وهو يشهد الله ربه على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم. ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم; كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم!
وذلك كله مع عزة الإيمان واستعلائه. ومع ثقة الإيمان واطمئنانه!
وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوما غلاظا شدادا حمقى. يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلا فيهذي; ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذيانا من أثر المس! يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة، فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم; ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي. لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم.
إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد. ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والأسباب..
إنه الإيمان. والثقة. والاطمئنان.. الإيمان بالله، والثقة بوعده، والاطمئنان إلى نصره.. الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة. لأنها ملء يديه، وملء قلبه الذي بين جنبيه، وليست وعدا للمستقبل في ضمير الغيب، إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب.
قال: إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه .
إني أشهد الله على براءتي مما تشركون من دونه. واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم: أنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون الله. ثم تجمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء. تجمعوا أنتم وهي - جميعا - ثم كيدوني بلا ريث ولا تمهل، فما أباليكم جميعا، ولا أخشاكم شيئا:
إني توكلت على الله ربي وربكم ..
ومهما أنكرتم وكذبتم. فهذه الحقيقة قائمة. حقيقة ربوبية الله لي ولكم. فالله الواحد هو ربي وربكم؛ لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة..
ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ..
وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض، بما فيها الدواب من الناس. والناصية أعلى الجبهة. فهو القهر والغلبة والهيمنة، في صورة حسية تناسب الموقف، وتناسب غلظة القوم وشدتهم، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم، وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم.. وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد:
إن ربي على صراط مستقيم ..
فهي القوة والاستقامة والتصميم.
وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الاستعلاء وسر ذلك التحدي.. إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله
هود - عليه السلام - في نفسه من ربه.. إنه يجد هذه الحقيقة واضحة.. إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر:
ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها .. وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهرا. فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها وهي لا تسلط عليه - إن سلطت - إلا بإذن ربه؟ وما بقاء فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه؟
[ ص: 1900 ] إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه، لا تدع في قلبه مجالا للشك في عاقبة أمره; ولا مجالا للتردد عن المضي في طريقه.
إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبدا.
وعند هذا الحد من التحدي بقوة الله، وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة، يأخذ هود في الإنذار والوعيد:
فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ..
فأديت واجبي لله، ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة الله سبحانه:
ويستخلف ربي قوما غيركم ..
يليقون بتلقي دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم.
ولا تضرونه شيئا ..
فما لكم به من قوة، وذهابكم لا يترك في كونه فراغا ولا نقصا..
إن ربي على كل شيء حفيظ ..
يحفظ دينه وأولياءه وسننه من الأذى والضياع، ويقوم عليكم فلا تفلتون ولا تعجزونه هربا! وكانت هي الكلمة الفاصلة. وانتهى الجدل والكلام. ليحق الوعيد والإنذار:
ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا. ونجيناهم من عذاب غليظ .
لما جاء أمرنا بتحقيق الوعيد، وإهلاك قوم
هود، نجينا
هودا والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا، خلصتهم من العذاب العام النازل بالقوم، واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء. وكانت نجاتهم من عذاب غليظ حل بالمكذبين. ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم، يتناسق مع الجو، ومع القوم الغلاظ العتاة.
والآن وقد هلكت عاد. يشار إلى مصرعها إشارة البعد، ويسجل عليها ما اقترفت من ذنب، وتشيع باللعنة والطرد، في تقرير وتكرار وتوكيد:
وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد. وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة. ألا إن عادا كفروا ربهم. ألا بعدا لعاد قوم هود ..
وتلك عاد .. بهذا البعد. وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق، وكان مصرعهم معروضا على الأنظار.. ولكنهم انتهوا وبعدوا عن الأنظار والأفكار..
وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ..
وهم عصوا رسولا واحدا. ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعا؟ فمن لم يسلم لرسول بها فقد عصى الرسل جميعا. ولا ننسى أن هذا الجمع في الآيات وفي الرسل مقصود من ناحية أسلوبية أخرى لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها. فهم جحدوا آيات، وهم عصوا رسلا. فما أضخم الذنب وما أشنع الجريمة!
واتبعوا أمر كل جبار عنيد ..
أمر كل متسلط عليهم، معاند لا يسلم بحق، وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين، ويفكروا بأنفسهم لأنفسهم. ولا يكونوا ذيولا فيهدروا آدميتهم.
[ ص: 1901 ] وهكذا يتبين أن القضية بين
هود وعاد كانت قضية ربوبية الله وحده لهم والدينونة لله وحده من دون العباد.. كانت هي قضية الحاكمية والاتباع.. كانت هي قضية: من الرب الذي يدينون له ويتبعون أمره؟ يتجلى هذا في قول الله تعالى:
وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد ..
فهي المعصية لأمر الرسل والاتباع لأمر الجبارين! والإسلام هو طاعة أمر الرسل - لأنه أمر الله - ومعصية أمر الجبارين. وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام وبين الكفر والإيمان.. في كل رسالة وعلى يد كل رسول.
وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير الله; والتمرد على سلطان الأرباب الطغاة; وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية، واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة.. لقد خلق الله الناس ليكونوا أحرارا لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه، ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم. فهذا مناط تكريمهم. فإن لم يصونوه فلا كرامة لهم عند الله ولا نجاة. وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة، وتدعي الإنسانية، وهي تدين لغير الله من عباده. والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين. فهم كثرة والمتجبرون قلة. ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال.
لقد هلكت
عاد لأنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد.. هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الآخرة:
وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ..
ثم لا يتركهم قبل أن يسجل عليهم حالهم وسبب ما أصابهم في إعلان عام وتنبيه عال:
ألا إن عادا كفروا ربهم ..
ثم يدعو عليهم بالطرد والبعد البعيد:
ألا بعدا لعاد قوم هود ..
بهذا التحديد والإيضاح والتوكيد. كأنما يحدد عنوانهم للعنة المرسلة عليهم حتى تقصدهم قصدا:
..
ألا بعدا لعاد قوم هود !!!