وحسبنا هذه الوقفات مع إلهامات
قصة هود وعاد . لنتابع بعدها سياق السورة مع قصة
صالح وثمود .
وإلى ثمود أخاهم صالحا. قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها. فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب ..
إنها الكلمة التي لا تتغير:
[ ص: 1907 ] يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ..
وإنه كذلك المنهج الذي لا يتبدل:
فاستغفروه ثم توبوا إليه ..
ثم هو التعريف بحقيقة الألوهية كما يجدها في نفسه الرسول:
إن ربي قريب مجيب ..
وذكرهم
صالح بنشأتهم من الأرض. نشأة جنسهم، ونشأة أفرادهم من غذاء الأرض أو من عناصرها التي تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي. ومع أنهم من هذه الأرض. من عناصرها. فقد استخلفهم الله فيها ليعمروها. استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من قبلهم.
ثم هم بعد ذلك يشركون معه آلهة أخرى..
فاستغفروه ثم توبوا إليه ..
واطمئنوا إلى استجابته وقبوله:
إن ربي قريب مجيب ..
والإضافة في "ربي" ولفظ "قريب" ولفظ "مجيب" واجتماعها وتجاورها.. ترسم صورة لحقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة، وتخلع على الجو أنسا واتصالا ومودة، تنتقل من قلب النبي الصالح إلى قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب!
ولكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة ولا جلالها، ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق، ولا وضاءة هذا الجو الطليق.. وإذا بهم يفاجأون، حتى ليظنون بأخيهم صالح الظنون!
قالوا: يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا! أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ..
لقد كان لنا رجاء فيك. كنت مرجوا فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك، أو لهذا جميعه. ولكن هذا الرجاء قد خاب..
أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ..
إنها للقاصمة! فكل شيء يا
صالح إلا هذا! وما كنا لنتوقع أن تقولها! ! فيا لخيبة الرجاء فيك! ثم إننا لفي شك مما تدعونا إليه. شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول:
وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ..
وهكذا يعجب القوم مما لا عجب فيه; بل يستنكرون ما هو واجب وحق، ويدهشون لأن يدعوهم أخوهم
صالح إلى عبادة الله وحده. لماذا؟ لا لحجة ولا لبرهان ولا لتفكير. ولكن لأن آباءهم يعبدون هذه الآلهة!
وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين. وأن يعللوا العقائد بفعل الآباء!
وهكذا يتبين مرة وثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح. ودعوة إلى إطلاق العقل البشري من عقال التقليد، ومن أوهاق الوهم والخرافة التي لا تستند إلى دليل.
وتذكرنا قولة
ثمود لصالح: [ ص: 1908 ] قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ..
تذكرنا بما كان
لقريش من ثقة بصدق
محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمانته. فلما أن دعاهم إلى ربوبية الله وحده تنكروا له كما تنكر قوم
صالح، وقالوا: ساحر. وقالوا: مفتر. ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه!
إنها طبيعة واحدة، ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور..
ويقول
صالح كما قال جده
نوح: قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير ..
يا قوم: ماذا ترون إن كنت أجد في نفسي حقيقة ربي واضحة بينة، تجعلني على يقين من أن هذا هو الطريق؟ وآتاني منه رحمة فاختارني لرسالته وأمدني بالخصائص التي تؤهلني لها. فمن ينصرني من الله إن أنا عصيته فقصرت في إبلاغكم دعوته، احتفاظا برجائكم في؟ أفنافعي هذا الرجاء وناصري من الله؟ كلا:
فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير ..
ما تزيدونني إلا خسارة على خسارة.. غضب الله وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الآخرة. وهي خسارة بعد خسارة. ولا شيء إلا التخسير! والتثقيل والتشديد!
ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية، فذروها تأكل في أرض الله، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ولا يذكر السياق صفة لهذه الناقة التي أشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلامة. ولكن في إضافتها لله:
هذه ناقة الله وفي تخصيصها لهم:
لكم آية ما يشير إلى أنها كانت ذات صفة خاصة مميزة، يعلمون بها أنها آية لهم من الله. ونكتفي بهذا دون الخوض في ذلك الخضم من الأساطير والإسرائيليات التي تفرقت بها أقوال المفسرين حول ناقة صالح فيما مضى وفيما سيجيء!
هذه ناقة الله لكم آية. فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء ..
وإلا فسيعاجلكم العذاب. يدل على هذه المعاجلة فاء الترتيب في العبارة. ولفظ قريب:
فيأخذكم عذاب قريب ..
يأخذكم أخذا. وهي حركة أشد من المس أو الوقوع.
فعقروها.. فقال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. ذلك وعد غير مكذوب ..
ودل عقرهم للناقة، أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو. دل على فساد قلوبهم واستهتارهم. والسياق هنا لا يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها؛ لأنها لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة تغييرا يذكر. ثم ليتابع السياق عجلة العذاب. فهو يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات:
فعقروها. فقال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ..
فهي آخر ما بقي لكم من متاع هذه الدنيا ومن أيام هذه الحياة:
ذلك وعد غير مكذوب ..
فهو وعد صادق لن يحيد..
وبالفاء التعقيبية يعبر كذلك. فالعذاب لم يتأخر:
[ ص: 1909 ] فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ، إن ربك هو القوي العزيز، وأخذ الذين ظلموا الصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين ..
فلما جاء موعد تحقيق الأمر - وهو الإنذار أو الإهلاك - نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا.. خاصة ومباشرة.. نجيناه من الموت ومن خزي ذلك اليوم، فقد كانت ميتة ثمود ميتة مخزية، وكان مشهدهم جاثمين في دورهم بعد الصاعقة المدوية التي تركتهم موتى على هيئتهم مشهدا مخزيا.
إن ربك هو القوي العزيز ..
يأخذ العتاة أخذا ولا يعز عليه أمر، ولا يهون من يتولاه ويرعاه.
ثم يعرض السياق مشهدهم، معجبا منهم، ومن سرعة زوالهم:
كأن لم يغنوا فيها ..
كأن لم يقيموا ويتمتعوا.. وإنه لمشهد مؤثر، وإنها للمسة مثيرة، والمشهد معروض، وما بين الحياة والموت - بعد أن يكون - إلا لمحة كومضة العين، وإذا الحياة كلها شريط سريع. كأن لم يغنوا فيها ...
ثم الخاتمة المعهودة في هذه السورة: تسجيل الذنب، وتشييع اللعنة، وانطواء الصفحة من الواقع ومن الذكرى:
ألا إن ثمودا كفروا ربهم. ألا بعدا لثمود! ..
ومرة أخرى نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ.. الدعوة فيها هي الدعوة. وحقيقة الإسلام فيها هي حقيقته.. عبادة الله وحده بلا شريك، والدينونة لله وحده بلا منازع.. ومرة أخرى نجد الجاهلية التي تعقب الإسلام، ونجد الشرك الذي يعقب التوحيد - فثمود كعاد هم من ذراري المسلمين الذين نجوا في السفينة مع
نوح - ولكنهم انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية، حتى جاءهم
صالح ليردهم إلى الإسلام من جديد..
ثم نجد أن القوم يواجهون الآية الخارقة التي طلبوها، لا بالإيمان والتصديق، ولكن بالجحود وعقر الناقة!
ولقد كان مشركو
العرب يطلبون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا. فها هم أولاء قوم
صالح قد جاءتهم الخارقة التي طلبوا. فما أغنت معهم شيئا! إن الإيمان لا يحتاج إلى الخوارق. إنه دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول. ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب والعقول:!!!
ومرة أخرى نجد حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة. قلوب الرسل الكرام. نجدها في قولة
صالح التي يحكيها عنه القرآن الكريم:
قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير .. وذلك بعد أن يصف لهم ربه كما يجده في قلبه:
إن ربي قريب مجيب ..
وما تتجلى حقيقة الألوهية قط في كمالها وجلالها وروائها وجمالها كما تتجلى في قلوب تلك الصفوة المختارة من عباده. فهذه القلوب هي المعرض الصافي الرائق الذي تتجلى فيه هذه الحقيقة على هذا النحو الفريد العجيب !
[ ص: 1910 ] ثم نقف من القصة أمام الجاهلية التي ترى في الرشد ضلالا; وفي الحق عجيبة لا تكاد تتصورها!
فصالح الذي كان مرجوا في قومه، لصلاحه ولرجاحة عقله وخلقه، يقف منه قومه موقف اليائس منه، المفجوع فيه! لماذا؟ لأنه دعاهم إلى الدينونة لله وحده. على غير ما ورثوا عن آبائهم من الدينونة لغيره!
إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن العقيدة الصحيحة، لا يقف عند حد في ضلاله وشروده. حتى إن الحق البسيط الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها; بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى منطق فطري أو منطق عقلي على الإطلاق!
إن
صالحا يناديهم:
يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.. ..
فهو يناديهم بما في نشأتهم ووجودهم في الأرض من دليل فطري منطقي لا يملكون له ردا.. وهم ما كانوا يزعمون أنهم هم أنشئوا أنفسهم، ولا أنهم هم كفلوا لأنفسهم البقاء، ولا أعطوا أنفسهم هذه الأرزاق التي يستمتعون بها في الأرض..
وظاهر أنهم لم يكونوا يجحدون أن الله - سبحانه - هو الذي أنشأهم من الأرض، وهو الذي أقدرهم على عمارتها. ولكنهم ما كانوا يتبعون هذا الاعتراف بألوهية الله - سبحانه - وإنشائه لهم واستخلافهم في الأرض، بما ينبغي أن يتبعه من الدينونة لله وحده بلا شريك، واتباع أمره وحده بلا منازع.. وهو ما يدعوهم إليه صالحا بقوله: " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " ..
لقد كانت القضية هي ذاتها.. قضية الربوبية لا قضية الألوهية. قضية الدينونة والحاكمية قضية الاتباع والطاعة.. إنها القضية الدائمة التي تدور عليها معركة الإسلام مع الجاهلية!