صفحة جزء
ومن سورة الأنبياء

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : نفشت فيه غنم القوم قال : " في حرث قوم " . وقال معمر : قال الزهري : " النفش لا يكون إلا بالليل والهمل بالنهار " . وقال قتادة : " فقضى أن يأخذوا الغنم ففهمها الله سليمان ، فلما أخبر بقضاء داود عليه السلام قال لا ولكن خذوا الغنم فلكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول " .

وروى أبو إسحاق عن مرة عن مسروق : وداود وسليمان قال : كان الحرث كرما فنفشت فيه ليلا فاجتمعوا إلى داود فقضى بالغنم لأصحاب الحرث ، فمروا بسليمان فذكروا ذلك له فقال : أولا تدفع الغنم إلى هؤلاء فيصيبون منها ويقوم هؤلاء على حرثهم حتى إذا عاد كما كان ردوا عليهم ، فنزلت : ففهمناها سليمان

وروي عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه في قصة داود وسليمان . قال أبو بكر : فمن الناس من يقول إذا نفشت ليلا في زرع رجل فأفسدته أن على صاحب الغنم ضمان ما أفسدت ، وإن كان نهارا لم يضمن شيئا ، وأصحابنا لا يرون في ذلك ضمانا لا ليلا ولا نهارا إذا لم يكن صاحب الغنم هو الذي أرسلها فيها .

واحتج الأولون بقضية داود وسليمان عليهما السلام واجتماعهما على إيجاب الضمان ، وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه : أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمود بن خالد قال : حدثنا الفريابي عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال : كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل قال أبو بكر : ذكر في الحديث الأول حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء ، وذكر [ ص: 54 ] في هذا الحديث حرام بن محيصة عن البراء بن عازب ، ولم يذكر في الحديث الأول ضمان ما أصابت الماشية ليلا وإنما ذكر الحفظ فقط ، وهذا يدل على اضطراب الحديث بمتنه وسنده .

وذكر سفيان بن حسين عن الزهري عن حرام بن محيصة فقال : ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخ ، وذلك لأن داود عليه السلام حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها ، ولا خلاف بين المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم ولا تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه ، فثبت أن الحكمين جميعا منسوخان بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم .

فإن قيل : قد تضمنت القصة معان ، منها : وجوب الضمان على صاحب الغنم ، ومنها كيفية الضمان ، وإنما المنسوخ منه كيفية الضمان ، ولم يثبت أن الضمان نفسه منسوخ . قيل له : قد ثبت نسخ ذلك أيضا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بخبر قد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه ، روى أبو هريرة وهزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : العجماء جبار وفي بعض الألفاظ جرح العجماء جبار ، ولا خلاف بين الفقهاء في استعمال هذا الخبر في البهيمة المنفلتة إذا أصابت إنسانا أو مالا أنه لا ضمان على صاحبها إذا لم يرسلها هو عليه ، فلما كان هذا الخبر مستعملا عند الجميع وكان عمومه ينفي ضمان ما تصيبه ليلا أو نهارا ثبت بذلك نسخ ما ذكر في قصة داود وسليمان عليهما السلام ونسخ ما ذكر في قصة البراء أن فيها إيجاب الضمان ليلا . وأيضا سائر الأسباب الموجبة للضمان لا يختلف فيها الحكم بالنهار والليل في إيجاب الضمان أو نفيه ، فلما اتفق الجميع على نفي ضمان ما أصابت الماشية نهارا وجب أن يكون ذلك حكمها ليلا ، وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الضمان في حديث البراء إذا كان صاحبها هو الذي أرسلها فيه ويكون فائدة الخبر أنه معلوم أن السائق لها بالليل بين الزروع والحوائط لا يخلو من نفش بعض غنمه في زروع الناس وإن لم يعلم بذلك ، فأبان النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمها إذا أصابت زرعا ، ويكون فائدة الخبر إيجاب الضمان بسوقه وإرساله في الزروع وإن لم يعلم بذلك ، وبين ما تساوي حكم العلم والجهل فيه .

وجائز أيضا أن تكون قضية داود وسليمان كانت على هذا الوجه ، بأن يكون صاحبها أرسلها ليلا وساقها وهو غير عالم بنفشها في حرث القوم ، فأوجبا عليه الضمان ، وإذا كان ذلك محتملا لم تثبت فيه دلالة على موضع [ ص: 55 ] الخلاف . وقد تنازع الفريقان من المختلفين في حكم المجتهد في الحادثة القائلون منهم بأن الحق واحد والقائلون بأن الحق في جميع أقاويل المختلفين ، فاستدل كل منهم بالآية على قوله ، وذلك لأن الذين قالوا بأن الحق في واحد زعموا أنه لما قال تعالى : ففهمناها سليمان فخص سليمان بالفهم دل ذلك على أنه كان المصيب للحق عند الله دون داود ، ؛ إذ لو كان الحق في قوليهما لما كان لتخصيص سليمان بالفهم دون داود معنى . وقال القائلون بأن كل مجتهد مصيب : لما لم يعنف داود على مقالته ولم يحكم بتخطئته دل على أنهما جميعا كانا مصيبين ، وتخصيصه لسليمان بالتفهيم لا يدل على أن داود كان مخطئا ، وذلك لأنه جائز أن يكون سليمان أصاب حقيقة المطلوب فلذلك خص بالتفهيم ولم يصب داود عين المطلوب ، وإن كان مصيبا لما كلف . ومن الناس من يقول : إن حكم داود وسليمان جميعا كان من طريق النص لا من جهة الاجتهاد ، ولكن داود لم يكن قد أبرم الحكم ولا أمضى القضية بما قال ، أو أن يكون قوله ذلك على وجه الفتيا لا على جهة إنفاذ القضاء بما أفتى به ، أو كانت قضية معلقة بشريطة لم تفصل بعد ، فأوحى الله تعالى إلى سليمان بالحكم الذي حكم به ونسخ به الحكم الذي كان داود أراد أن ينفذه ، قالوا : ولا دلالة في الآية على أنهما قالا ذلك من جهة الرأي ، قالوا : وقوله : ففهمناها سليمان يعني به تفهيمه الحكم الناسخ . وهذا قول من لا يجيز أن يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الاجتهاد والرأي وإنما يكون من طريق النص . آخر سورة الأنبياء .

التالي السابق


الخدمات العلمية