باب الاعتكاف قال الله تعالى :
ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ومعنى الاعتكاف في أصل اللغة هو اللبث ، قال الله :
ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وقال تعالى :
فنظل لها عاكفين وقال
الطرماح :
فباتت بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع
ثم نقل في الشرع إلى معان أخر مع اللبث لم يكن الاسم يتناولها في اللغة ؛ منها الكون في المسجد ، ومنها الصوم ، ومنها ترك الجماع رأسا ونية التقرب إلى الله عزة وجل ، ولا يكون معتكفا إلا بوجود هذه المعاني ، وهو نظير ما قلنا في الصوم إنه اسم للإمساك في اللغة ثم زيد فيه معان أخر لا يكون الإمساك صوما شرعيا إلا بوجودها .
وأما شرط اللبث في المسجد فإنه للرجال خاصة دون النساء ، وأما شرط كونه في المسجد في الاعتكاف فالأصل فيه قوله عز وجل :
ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد فجعل من شرط الاعتكاف الكون في المسجد ، وقد اختلف
السلف في
المسجد الذي يجوز الاعتكاف فيه [ ص: 302 ] على أنحاء .
وروي عن
أبي وائل عن
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة أنه قال
لعبد الله : رأيت ناسا عكوفا بين دارك ودار الأشعري لا تعير . وقد علمت أن لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو في
المسجد الحرام فقال
عبد الله : لعلهم أصابوا وأخطأت وحفظوا ونسيت ،
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي أن
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة قال : " لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد :
المسجد الحرام ،
والمسجد الأقصى ،
ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم " ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب : " لا اعتكاف إلا في مسجد نبي " ، وهذا موافق لمذهب
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة ؛ لأن المساجد الثلاثة هي مساجد الأنبياء عليهم السلام .
وقول آخر ؛ وهو ما روى
nindex.php?page=showalam&ids=12424إسرائيل عن
أبي إسحاق عن
الحارث عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي قال : " لا اعتكاف إلا في
المسجد الحرام أو
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم " .
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير وأبي جعفر nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير : " لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة " فحصل من اتفاق جميع
السلف أن من شرط الاعتكاف الكون في المسجد على اختلاف منهم في عموم المساجد وخصوصها على الوجه الذي بينا ؛ ولم يختلف فقهاء الأمصار في جواز الاعتكاف في سائر المساجد التي تقام فيها الجماعات إلا شيء يحكى عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ذكره عنه
ابن عبد الحكم قال : " لا يعتكف أحد إلا في المسجد الجامع أو في رحاب المساجد التي تجوز فيها الصلاة " .
وظاهر قوله :
وأنتم عاكفون في المساجد يبيح الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ ، ومن اقتصر به على بعضها فعليه بإقامة الدلالة ، وتخصيصه بمساجد الجماعات لا دلالة عليه ، كما أن تخصيص من خصه بمساجد الأنبياء لما لم يكن عليه دليل سقط اعتباره .
فإن قيل : قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=935098لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ومسجد بيت المقدس ومسجدي هذا يدل على اعتبار تخصيص هذه المساجد ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=20820صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام يدل على اختصاص هذين المسجدين بالفضيلة دون غيرهما ، قيل له : لعمري إن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم في تخصيصه المساجد الثلاثة في حال والمسجدين في حال دليل على تفضيلهما على سائر المساجد .
وكذلك نقول كما قال صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا دلالة فيه على نفي جواز الاعتكاف في غيرهما كما لا دلالة على نفي جواز الجمعات والجماعات في غيرهما ، فغير جائز لنا تخصيص عموم الآية بما لا دلالة فيه على تخصيصهما ؛ وقول
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك في الرواية التي رويت عنه في تخصيص مساجد الجمعات دون مساجد الجماعات لا معنى له ، وكما لا تمتنع صلاة الجمعة في سائر المساجد كذلك
[ ص: 303 ] لا يمتنع الاعتكاف فيها ، فكيف صار الاعتكاف مخصوصا بمساجد الجمعات دون مساجد الجماعات ؟
وقد اختلف الفقهاء في
موضع اعتكاف النساء ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبو يوسف nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد nindex.php?page=showalam&ids=15922وزفر : " لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها ، ولا تعتكف في مسجد جماعة " وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : " تعتكف المرأة في مسجد الجماعة " ولا يعجبه أن تعتكف في مسجد بيتها ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : " العبد والمرأة والمسافر يعتكفون حيث شاءوا ؛ لأنه لا جمعة عليهم " .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبو بكر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=844266لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ، وبيوتهن خير لهن فأخبر أن بيتها خير لها ، ولم يفرق بين حالها في الاعتكاف وفي الصلاة ، ولما جاز للمرأة الاعتكاف باتفاق الفقهاء وجب أن يكون ذلك في بيتها لقوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=843976وبيوتهن خير لهن فلو كانت ممن يباح لها الاعتكاف في المسجد لكان اعتكافها في المسجد أفضل ولم يكن بيوتهن خيرا لهن لأن الاعتكاف شرطه الكون في المساجد لمن يباح له الاعتكاف فيه .
ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=672406صلاة المرأة في دارها أفضل من صلاتها في مسجدها ، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في دارها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ، فلما كانت صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد كان اعتكافها كذلك .
ويدل على كراهة
الاعتكاف في المساجد للنساء ما حدثنا
محمد بن بكر قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16544عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12156أبو معاوية ويعلى بن عبيد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17316يحيى بن سعيد ، عن
عمرة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=659015كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه ، قالت : وإنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ، قالت : فأمر ببنائه فضرب ، فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضرب ، قالت : وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه فضرب ، فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية فقال : ما هذه آلبر تردن ؟ قالت : ثم أمر ببنائه فقوض وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضت ، ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول ؛ يعني من شوال .
وهذا الخبر يدل على كراهية الاعتكاف للنساء في المسجد بقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=666963آلبر تردن ؟ يعني أن هذا ليس من البر ، ويدل على كراهية ذلك منهن أنه لم يعتكف في ذلك الشهر ونقض بناءه حتى نقضن أبنيتهن .
ولو ساغ لهن الاعتكاف عنده لما ترك الاعتكاف بعد العزيمة ولما جوز لهن تركه وهو قربة إلى الله تعالى ، وفي هذا دلالة على أنه قد كره اعتكاف النساء في المساجد .
فإن قيل : قد روى
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة هذا الحديث عن
nindex.php?page=showalam&ids=17316يحيى بن سعيد عن
عمرة عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة وقالت فيه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=659015فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف فأذن لي ، [ ص: 304 ] ثم استأذنته زينب فأذن لها ، فلما صلى الفجر رأى في المسجد أربعة أبنية فقال : ما هذا ؟ فقالوا : nindex.php?page=showalam&ids=15953لزينب nindex.php?page=showalam&ids=41وحفصة nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة فقال : آلبر تردن ؟ فلم يعتكف ، فأخبرت في هذا الحديث بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : ليس فيه أنه أذن لهن في الاعتكاف في المسجد ، ويحتمل أن يكون الإذن انصرف إلى اعتكافهن في بيوتهن ، ويدل عليه أنه لما رأى أبنيتهن في المسجد ترك الاعتكاف حتى تركن أيضا ، وهذا يدل على أن الإذن بديا لم يكن إذنا لهن في الاعتكاف في المسجد ، وأيضا فلو صح أن الإذن بديا انصرف إلى فعله في المسجد لكانت الكراهة دالة على نسخه وكان الآخر من أمره أولى مما تقدم ، فإن قيل : لا يجوز أن يكون ذلك نسخا للإذن لأن النسخ عندكم لا يجوز قبل التمكن من الفعل ، قيل له : قد كن مكن من الفعل لأدنى الاعتكاف ؛ لأنه من حين طلوع الفجر من ذلك اليوم إلى أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر فعلهن ذلك فقد حصل التمكين من الاعتكاف ، فلذلك جاز ورود النسخ بعده .
وأما قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي فيمن لا جمعة عليه : " إن له أن يعتكف حيث شاء " فلا معنى له ؛ لأنه ليس للاعتكاف تعلق بالجمعة ، وقد وافقنا
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي على جواز الاعتكاف في سائر المساجد فيمن عليه جمعة ومن ليست عليه لا يختلفان في موضع الاعتكاف ، وإنما كره ذلك للمرأة في المسجد لأنها تصير لابثة مع الرجال في المسجد وذلك مكروه لها سواء كانت معتكفة أو غير معتكفة ، فأما من سواها فلا يختلف الحكم فيه لقوله تعالى :
وأنتم عاكفون في المساجد فلم يخصص من عليه جمعة من غيرهم ، فلا يختلف في الاعتكاف من عليه جمعة ومن ليست عليه ؛ لأنه نافلة ليس بفرض على أحد .
وقد اختلف الفقهاء في
مدة الاعتكاف ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبو يوسف nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد nindex.php?page=showalam&ids=15922وزفر nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : " له أن يعتكف يوما وما شاء " وقد اختلفت الرواية عن أصحابنا في من دخل في الاعتكاف من غير إيجاب ، بالقول في إحدى الروايتين : " هو معتكف ما دام في المسجد وله أن يخرج متى شاء بعد أن يكون صائما في مقدار لبثه فيه " والرواية الأخرى ، وهي في غير الأصول " أن عليه أن يتمه يوما " .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16472ابن وهب عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك قال : " ما سمعت أن أحدا اعتكف دون عشر ، ومن صنع ذلك لم أر عليه شيئا " وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16337ابن القاسم عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك أنه كان يقول : " الاعتكاف يوم وليلة " ثم رجع وقال : " لا اعتكاف أقل من عشرة أيام " وقال
عبيد الله بن الحسن : " لا أستحب أن يعتكف أقل من عشرة أيام " قال
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبو بكر : تحديد مدة الاعتكاف لا يصح إلا بتوقيف أو اتفاق وهما معدومان ، فالموجب لتحديده متحكم قائل بغير دلالة .
[ ص: 305 ] فإن قيل : تحديد العشرة لما روي أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=651885النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، وروي أنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=651904اعتكف العشر الأواخر من شوال في بعض السنين ، ولم يرو أنه اعتكف أقل من ذلك ، قيل له : لم يختلف الفقهاء أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للاعتكاف ليس على الوجوب وأنه غير موجب على أحد اعتكافا ، فإذا لم يكن فعله للاعتكاف على الوجوب فتحديد العشرة أولى أن لا يثبت بفعله ، ومع ذلك فإنه لم ينف عن غيره ، فنحن نقول : إن اعتكاف العشرة جائز ونفي ما دونها يحتاج إلى دليل ، وقد أطلق الله تعالى ذكر الاعتكاف فقال :
ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ولم يحده بوقت ولم يقدره بمدة ، فهو على إطلاقه وغير جائز تخصيصه بغير دلالة ، والله أعلم .