صفحة جزء
باب من يحرم الميراث مع وجود النسب قال أبو بكر : لا خلاف بين المسلمين أن قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم وما عطف عليه من قسمة الميراث خاص في بعض المذكورين دون بعض ، فبعض ذلك متفق عليه وبعضه مختلف فيه ، فما اتفق عليه أن الكافر لا يرث المسلم وأن العبد لا يرث وأن قاتل العمد لا يرث ؛ وقد بينا ميراث هؤلاء في سورة البقرة ما أجمعوا عليه منه وما اختلفوا فيه . واختلف في ميراث المسلم من الكافر وميراث المرتد ، فأما ميراث المسلم من الكافر فإن الأئمة من الصحابة متفقون على نفي التوارث بينهما ، وهو قول عامة التابعين وفقهاء الأمصار .

وروى شعبة عن عمرو بن أبي حكيم عن ابن باباه عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال : كان معاذ بن جبل باليمن فارتفعوا إليه في يهودي مات وترك أخاه مسلما ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الإسلام يزيد ولا ينقص .

وروى ابن شهاب عن داود بن أبي هند قال : قال مسروق : ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضاها معاوية قال : كان يورث المسلم من اليهودي والنصراني ولا يورث اليهودي والنصراني من المسلم ، قال : فقضى بها أهل الشام ؛ قال داود : فلما قدم عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول .

وروى هشيم عن مجالد عن الشعبي : أن معاوية كتب بذلك إلى زياد يعني توريث المسلم من الكافر فأرسل زياد إلى شريح فأمره بذلك ، وكان شريح قبل ذلك لا يورث المسلم من الكافر ، فلما أمره زياد بما أمره قضى بقوله ، فكان شريح إذا قضى بذلك قال : هذا قضاء أمير المؤمنين .

وقد روى الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يتوارث أهل ملتين شتى وفي لفظ : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم .

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يتوارث أهل ملتين .

فهذه الأخبار تمنع توريث المسلم من الكافر [ ص: 37 ] والكافر من المسلم ، ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ، فهو ثابت الحكم في إسقاط التوارث بينهما .

وأما حديث معاذ فإنه لم يعن هذه المقالة ، وإنما تأول فيها قوله : الإيمان يزيد ولا ينقص والتأويل لا يقضى به على النص والتوقيف وإنما يرد التأويل إلى المنصوص عليه ويحمل على موافقته دون مخالفته . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : الإيمان يزيد ولا ينقص يحتمل أن يريد به من أسلم ترك على إسلامه ومن خرج عن الإسلام رد إليه ؛ وإذا احتمل ذلك واحتمل ما تأوله معاذ وجب حمله على موافقة خبر أسامة في منع التوارث ، إذ غير جائز رد النص بالتأويل والاحتمال . والاحتمال أيضا لا تثبت به حجة ؛ لأنه مشكوك فيه وهو مفتقر في إثبات حكمه إلى دلالة من غيره ، فسقط الاحتجاج به .

وأما قول مسروق : " ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضى بها معاوية في توريث المسلم من الكافر " فإنه يدل على بطلان هذا المذهب لإخباره أنها قضية محدثة في الإسلام ، وذلك يوجب أن يكون قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر ؛ وإذا ثبت أن من قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر وأن معاوية لا يجوز أن يكون خلافا عليهم ، بل هو ساقط القول معهم . ويؤيد ذلك أيضا قول داود بن أبي هند : إن عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول ؛ والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية