قوله تعالى :
إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا إطلاق اسم النجس على المشرك من جهة أن الشرك الذي يعتقده يجب اجتنابه كما يجب اجتناب النجاسات والأقذار ؛ فلذلك سماهم نجسا .
والنجاسة في الشرع تنصرف على وجهين : أحدهما : نجاسة الأعيان ، والآخر نجاسة الذنوب ؛ وكذلك الرجس ، والرجز ينصرف على هذين الوجهين في الشرع ؛ قال الله تعالى :
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان وقال في وصف المنافقين :
سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس فسماهم رجسا كما سمى المشركين نجسا .
وقد أفاد قوله :
إنما المشركون نجس منعهم عن دخول المسجد إلا لعذر ، إذ كان علينا تطهير المساجد من الأنجاس وقوله تعالى :
فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا قد تنازع معناه أهل العلم ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : { لا يدخل المشرك
المسجد الحرام } قال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك :
[ ص: 279 ] { ولا غيره من المساجد إلا لحاجة من نحو الذمي يدخل إلى الحاكم في المسجد للخصومة } . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : { يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة } . وقال أصحابنا : { يجوز للذمي دخول سائر المساجد } ، وإنما معنى الآية على أحد وجهين : إما أن يكون النهي خاصا في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول
مكة ، وسائر المساجد ؛ لأنهم لم تكن لهم ذمة ، وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وهم مشركو
العرب ، أو أن يكون المراد منعهم من دخول
مكة للحج ؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر فيما روى
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري عن
حميد بن عبد الرحمن عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أن
nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر بعثه فيمن يؤذن يوم النحر
بمنى : أن لا يحج بعد العام مشرك ، فنبذ أبو بكر إلى الناس فلم يحج في العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشرك , فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر إلى المشركين :
يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس الآية ، وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=8علي حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ عنه سورة براءة نادى : ولا يحج بعد العام مشرك ، وفي ذلك دليل على المراد بقوله :
فلا يقربوا المسجد الحرام ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة :
وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء وإنما كانت خشية العيلة لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحج ؛ لأنهم كانوا ينتفعون بالتجارات التي كانت تكون في مواسم الحج ، فدل ذلك على أن مراد الآية الحج .
ويدل عليه اتفاق المسلمين على
منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة ، وسائر أفعال الحج ، وإن لم يكن في المسجد ، ولم يكن
أهل الذمة ممنوعين من هذه المواضع ، ثبت أن مراد الآية هو الحج دون قرب المسجد لغير الحج ؛ لأنه إذا حمل على ذلك كان عموما في سائر المشركين ، وإذا حمل على دخول المسجد كان خاصا في ذلك دون قرب المسجد ، والذي في الآية النهي عن قرب المسجد ، فغير جائز تخصيص المسجد به دون ما يقرب منه .
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة عن
حميد عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن عن
nindex.php?page=showalam&ids=61عثمان بن أبي العاص :
أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم قبة في المسجد ، فقالوا : يا رسول الله قوم أنجاس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليس على الأرض من أنجاس شيء إنما أنجاس الناس على أنفسهم . وروى
يونس عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب : أن
أبا سفيان كان يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في
المسجد الحرام لقول الله تعالى :
فلا يقربوا المسجد الحرام قال
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبو بكر : فأما وفد
ثقيف فإنهم جاءوا بعد فتح
مكة [ ص: 280 ] إلى النبي صلى الله عليه وسلم والآية نزلت في السنة التي حج فيها
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر ، وهي سنة تسع ، فأنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وأخبر أن كونهم أنجاسا لا يمنع دخولهم المسجد ، وفي ذلك دلالة على أن نجاسة الكفر لا يمنع الكافر من دخول المسجد . وأما
أبو سفيان فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتجديد الهدنة ، وذلك قبل الفتح ، وكان
أبو سفيان مشركا حينئذ ، والآية وإن كان نزولها بعد ذلك فإنما اقتضت النهي عن قرب
المسجد الحرام ، ولم تقتض المنع من دخول الكفار سائر المساجد .
فإن قيل : لا يجوز للكافر دخول
الحرم إلا أن يكون عبدا أو صبيا أو نحو ذلك ، لقوله تعالى :
فلا يقربوا المسجد الحرام ولما روى
زيد بن يثيع عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه أنه نادى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم :
لا يدخل الحرم مشرك . قيل له : إن صح هذا اللفظ فالمراد أن لا يدخله للحج .
وقد روي في أخبار عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي أنه نادى أن لا يحج بعد العام مشرك ، وكذلك في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، فثبت أن المراد دخول
الحرم للحج . وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=16101شريك عن
أشعث عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا أن يكون عبدا أو أمة يدخله لحاجة فأباح دخول العبد والأمة للحاجة لا للحج ، وهذا يدل على أن الحر الذمي له دخوله لحاجة ، إذ لم يفرق أحد بين العبد والحر ، وإنما خص العبد والأمة ، والله أعلم بالذكر ؛ لأنهما لا يدخلانه في الأغلب الأعم للحج . وقد حدثنا
عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا
الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=16360عبد الرزاق : أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : أخبرني
nindex.php?page=showalam&ids=11862أبو الزبير أنه سمع
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى :
إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام إلا أن يكون عبدا أو واحدا من
أهل الذمة فوقفه
nindex.php?page=showalam&ids=11862أبو الزبير على
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر ، وجائز أن يكونا صحيحين فيكون جابر قد رفعه تارة ، وأفتى بها أخرى .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء قال : لا يدخل المشرك وتلا قوله تعالى :
فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ؛ قال
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء : المسجد الحرام الحرم كله . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : .
وقال لي
nindex.php?page=showalam&ids=16705عمرو بن دينار مثل ذلك . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبو بكر : والحرم كله يعبر عنه بالمسجد ، إذ كانت حرمته متعلقة بالمسجد ، وقال الله تعالى :
والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد والحرم كله مراد به ، وكذلك قوله تعالى :
ثم محلها إلى البيت العتيق قد أريد به
الحرم كله ؛ لأنه في أي
الحرم نحر البدن أجزأه ، فجائز على هذا أن يكون المراد بقوله تعالى :
فلا يقربوا المسجد الحرام الحرم كله للحج ، إذ
[ ص: 281 ] كان أكثر أفعال المناسك متعلقا
بالحرم كله في حكم المسجد لما وصفنا ، فعبر عن
الحرم بالمسجد ، وعبر عن الحج
بالحرم . ويدل على أن المراد بالمسجد هاهنا
الحرم قوله تعالى :
إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ومعلوم أن ذلك كان
بالحديبية ، وهي على شفير
الحرم ؛ وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=83المسور بن مخرمة nindex.php?page=showalam&ids=17065ومروان بن الحكم أن بعضها من الحل وبعضها من الحرم .
فأطلق الله تعالى عليها أنها عند
المسجد الحرام ، وإنما هي عند
الحرم ، وإطلاقه تعالى اسم النجس على المشركين يقتضي اجتنابهم ، وترك مخالطتهم ، إذ كانوا مأمورين باجتناب الأنجاس . وقوله تعالى :
بعد عامهم هذا فإن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة ذكر أن المراد العام الذي حج فيه
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق فتلا
nindex.php?page=showalam&ids=8علي سورة براءة ، وهو لتسع مضين من الهجرة ، وكان بعده حجة الوداع سنة عشر . قوله تعالى :
وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء فإن العيلة الفقر ، يقال : عال يعيل إذا افتقر ؛ قال الشاعر :
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة : كانوا خافوا انقطاع المتاجر بمنع المشركين ، فأخبر الله تعالى أنه يغنيهم من فضله فقيل : إنه أراد الجزية المأخوذة من المشركين ، وقيل : أراد الإخبار بإبقاء المتاجر من جهة المسلمين ؛ لأنه كان عالما أن
العرب ، وأهل بلدان
العجم سيسلمون ، ويحجون فيستغنون بما ينالون من منافع متاجرهم عن حضور المشركين ، وهو نظير قوله تعالى :
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد الآية ، فأخبر تعالى عما في حج البيت والهدي والقلائد من منافع الناس ومصالحهم في دنياهم ودينهم ، وأخبر في قوله :
وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله عما ينالون من الغنى بحج المسلمين ، وإن كانوا قليلين في وقت نزول الآية . وإنما علق الغنى بالمشيئة لمعنيين كل واحد منهما جائز أن يكون مرادا :
أحدهما : أنه لما كان منهم من يموت ، ولا يبلغ . هذا الغنى الموعود به علقه بشرط المشيئة ، والثاني : لينقطع الآمال إلى الله في إصلاح أمور الدنيا والدين ، كما قال الله تعالى :
لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين