[ ص: 195 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة آل عمران
" بسم الله " الواحد المتفرد بالإحاطة بالكمال " الرحمن " الذي وسعت رحمة إيجاده كل مخلوق وأوضح للمكلفين طريق النجاة " الرحيم " الذي اختار أهل التوحيد لمحل أنسه وموطن جمعه وقدسه
الم المقاصد التي سيقت لها هذه السورة إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى، والإخبار بأن رئاسة الدنيا بالأموال والأولاد وغيرهما مما آثره الكفار على الإسلام غير مغنية عنهم شيئا في الدنيا ولا في الآخرة، وأن
ما أعد للمتقين من الجنة والرضوان هو الذي ينبغي الإقبال عليه والمسارعة إليه [وفي وصف المتقين بالإيمان والدعاء والصبر والصدق والقنوت والإنفاق] والاستغفار
[ ص: 196 ] ما يتعطف عليه كثير من أفانين أساليب هذه السورة هذا ما كان ظهر لي أولا، وأحسن منه أن نخص القصد الأول وهو التوحيد بالقصد فيها فإن الأمرين الآخرين يرجعان إليه، وذلك لأن الوصف بالقيومية يقتضي القيام بالاستقامة، فالقيام يكون على كل نفس، والاستقامة العدل كما قال:
قائما بالقسط أي بعقاب العاصي وثواب الطائع بما يقتضي للموفق ترك العصيان ولزوم الطاعة; وهذا الوجه أوفق للترتيب، لأن الفاتحة لما كانت جامعة للدين إجمالا جاء به التفصيل محاذيا لذلك، فابتدئ بسورة الكتاب المحيط بأمر الدين، ثم بسورة التوحيد الذي هو سر حرف الحمد [و] أول حروف الفاتحة، لأن التوحيد هو الأمر الذي لا يقوم بناء إلا عليه، ولما صح الطريق وثبت الأساس جاءت التي بعدها داعية إلى الاجتماع على ذلك; وأيضا
[ ص: 197 ] فلما ثبت بالبقرة أمر الكتاب في أنه هدى وقامت به دعائم الإسلام الخمس جاءت هذه لإثبات الدعوة الجامعة في قوله سبحانه وتعالى:
يا أيها الناس اعبدوا ربكم فأثبت الوحدانية له بإبطال إلهية غيره بإثبات أن
عيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان يحيي الموتى عبده فغيره بطريق الأولى، فلما ثبت أن الكل عبيده دعت سورة النساء إلى إقبالهم إليه واجتماعهم عليه; ومما يدل على أن القصد بها هو التوحيد تسميتها بآل عمران ، فإن لم يعرب عنه في هذه السورة ما أعرب عنه ما ساقه سبحانه وتعالى فيها من أخبارهم بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد الذي ليس في درج الإيمان أعلى منه، فهو التاج الذي هو خاصة الملك المحسوسة، كما أن التوحيد خاصته المعقولة، والتوحيد موجب لزهرة المتحلي به فلذلك سميت الزهراء.
[ ص: 198 ] القصد الأول التوحيد
ومناسبة هذا الأول بالابتدائية لآخر ما قبلها أنه لما كان آخر البقرة في الحقيقة آية الكرسي وما بعدها إنما هو بيان، لأنها أوضحت أمر الدين بحيث لم يبق وراءها مرمى لمتعنت، أو تعجب من حال من جادل في الإلهية أو استبعد شيئا من القدرة ولم ينظر فيما تضمنته هذه الآية من الأدلة مع وضوحه، أو إشارة إلى
الاستدلال على البعث بأمر السنابل في قالب الإرشاد إلى ما ينفع في اليوم الذي نفى فيه نفع البيع والخلة والشفاعة من النفقات، وبيان بعض ما يتعلق بذلك، وتقرير أمر ملكه لما منه الإنفاق من السماوات والأرض، والإخبار بإيمان الرسول وأتباعه بذلك، وبأنهم لا يفرقون بين أحد من الرسل المشار إليهم في السورة، وبصدقهم في التضرع برفع الأثقال التي كانت على من قبلهم من بني إسرائيل وغيرهم، وبالنصرة على عامة الكافرين; لما كان ذلك على هذا الوجه ناسب هذا الاختتام غاية المناسبة ابتداء هذه السورة بالذي وقع الإيمان به سبحانه وتعالى ووجهت الرغبات آخر تلك إليه; وأحسن منه أنه لما نزل إلينا كتابه فجمع مقاصده في الفاتحة على وجه أرشد فيه إلى سؤال الهداية ثم شرع في
[ ص: 199 ] تفصيل ما جمعه في الفاتحة، فأرشد في أول البقرة إلى أن الهداية في هذا الكتاب، وبين ذلك بحقية المعنى والنظم كما تقدم إلى أن ختم البقرة بالإخبار عن خلص عباده بالإيمان بالمنزل بالسمع والطاعة، وأفهم ذلك مع التوجه بالدعاء إلى المنزل له أن له سبحانه وتعالى كل شيء وبيده النصر، علم أنه واحد لا شريك له حي لا يموت قيوم لا يغفل وأن ما أنزل هو الحق، فصرح أول هذه بما أفهمه آخر تلك، كما يصرح بالنتيجة بعد المقدمات المنتجة لها فقال: " الله " أي الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه لأن له الإحاطة بجميع أوصاف الكمال والنزاهة الكاملة من كل شائبة نقص.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي مشيرا إلى القول الصحيح في ترتيب السور من أنه باجتهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إقرارا لله سبحانه وتعالى لهذا الانتظام والترتيب السوري في مقرر هذا الكتاب: هو ما رضيه الله سبحانه وتعالى فأقره; فلما كانت سورة الفاتحة جامعة لكلية أمر الله سبحانه وتعالى فيما يرجع إليه، وفيما يرجع إلى عبده، وفيما بينه وبين عبده، فكانت أم القرآن وأم الكتاب; جعل مثنى تفصيل
[ ص: 200 ] ما يرجع منها إلى الكتاب المنبئ عن موقعه في الفاتحة مضمنا سورة البقرة إلى ما أعلن به لألأ نور آية الكرسي فيها، وكان منزل هذه السورة من مثنى تفصيل ما يرجع إلى خاص علن الله سبحانه وتعالى في الفاتحة، فكان
منزلة سورة آل عمران منزلة تاج الراكب وكان منزلة سورة البقرة منزلة سنام المطية; قال صلى الله عليه وسلم:
"لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة، لكل شيء تاج وتاج القرآن سورة آل عمران " [وإنما بدئ هذا الترتيب لسورة الكتاب لأن علم الكتاب أقرب إلى المخاطبين من تلقي علن أمر الله، فكان في تعلم سورة البقرة والعمل بها تهيؤ لتلقي ما تضمنته سورة آل عمران ] ليقع التدرج والتدرب بتلقي الكتاب حفظا وبتلقيه على اللقن منزل الكتاب بما أبداه علنه في هذه السورة; وبذلك يتضح أن إحاطة " الم " المنزلة في أول سورة البقرة إحاطة كتابية بما هو قيامه وتمامه، ووصلة ما بين قيامه وتمامه، وأن إحاطة " الم " المنزلة في أول هذه السورة إحاطة إلهية حيايية قيومية مما بين غيبة عظمة اسمه " الله " إلى تمام
[ ص: 201 ] قيوميته البادية في تبارك ما أنبأ عنه اسمه
الحي القيوم وما أوصله لطفه من مضمون توحيده المنبئ عنه كلمة الإخلاص في قوله:
لا إله إلا هو فلذلك كان هذا المجموع في منزله قرآنا حرفيا وقرآنا كلميا اسميا وقرآنا كلاميا تفصيليا مما هو اسمه الأعظم كما تقدم من
nindex.php?page=hadith&LINKID=665770قوله صلى الله عليه وسلم:
"اسم [الله] الأعظم في هاتين الآيتين: وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " وكما وقعت إلاحة في سورة البقرة لما وقع بها الإفصاح في سورة آل عمران كذلك وقع في آل عمران من نحو ما وقع تفصيله في سورة البقرة ليصير منزلا واحدا بما أفصح مضمون كل سورة بإلاحة الأخرى، فلذلك هما غمامتان وغيايتان على قارئهما يوم القيامة كما تقدم لا تفترقان، فأعظم " الم " هو مضمون " الم " الذي افتتحت به هذه السورة ويليه في الرتبة ما افتتحت به [سورة البقرة، ويليه في الرتبة ما افتتحت به] سور الآيات نحو قوله سبحانه وتعالى
الم تلك آيات الكتاب الحكيم فللكتاب الحكيم إحاطة قواما وتماما ووصلة،
[ ص: 202 ] ولمطلق الكتاب إحاطة كذلك، وإحاطة الإحاطات وأعظم العظمة إحاطة افتتاح هذه السورة; وكذلك أيضا اللواميم محيطة بإحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف اللواميم، وإحاطة الحواميم من دون إحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف الطواسيم على ما يتضح تراتبه وعلمه لمن آتاه الله فهما بمنزلة قرآن الحروف المخصوص بإنزاله هذه الأمة دون سائر الأمم، الذي [هو] من العلم الأزلي العلوي; ثم قال: ولما كانت أعظم الإحاطات إحاطة [عظمة اسمه "الله" الذي هو مسمى التسعة والتسعين اسما التي أولها " إله " كان ما أفهمه أول الفهم هنا اسم ألف بناء في معنى إحاطات الحروف على نحو إحاطة] اسمه "الله" في الأسماء، فكانت هذه الألف مسمى كل ألف كما كان اسمه " الله " سبحانه وتعالى مسمى كل اسم سواه حتى أنه مسمى سائر الأسماء الأعجمية التي هي أسماؤه سبحانه وتعالى في جميع الألسن كلها مع أسماء العربية أسماء لمسمى هو هذا الاسم العظيم
[ ص: 203 ] الذي هو " الله " الأحد الذي لم يتطرق إليه شرك، كما تطرق إلى أسمائه من اسمه " إله " إلى غاية اسمه "الصبور" وكما كان إحاطة هذا الألف أعظم إحاطة حرفية وسائر الألفات أسماء لعظيم إحاطته; وكذلك هذه الميم أعظم إحاطة ميم تفصلت فيه وكانت له أسماء بمنزلة ما هي سائر الألفات أسماء لمسمى هذا الألف كذلك سائر الميمات اسم لمسمى هذا الميم، كما أن اسمه
الحي القيوم أعظم تمام كل عظيم من أسماء عظمته; وكذلك هذه اللام بمنزلة ألفه وميمه، وهي لام الإلهية الذي أسراره لطيف التنزل إلى تمام ميم قيوميته; فمن لم ينته إلى فهم معاني الحروف في هذه الفاتحة نزل له الخطاب إلى ما هو إفصاح إحاطتها في الكلم والكلام المنتظم في قوله:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم فهو قرآن حرفي يفصله قرآن كلمي يفصله قرآن كلامي انتهى. فقوله:
الله أي الذي آمن به الرسول وأتباعه بما له من الإحاطة بصفات الكمال
لا إله إلا هو أي متوحد لا كفؤ له فقد [فاز] قصدكم إليه بالرغبة وتعويلكم عليه في المسألة. قال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي: فما أعلن به هذا الاسم العظيم [أي] الله في هذه
[ ص: 204 ] الفاتحة هو ما استعلن به في قوله تعالى:
قل هو الله أحد ولما كان إحاطة العظمة أمرا خاصا لأن العظمة إزاء الله الذي لا يطلع عليه إلا صاحب سر كان البادي لمن دون أهل الفهم من رتبة أهل العلم اسمه "الله الصمد" الذي يعنى إليه بالحاجات والرغبات المختص بالفوقية والعلو الذي يقال للمؤمن عنه: أين الله؟ فيقول: في السماء، إلى حد علو أن يقول: فوق العرش، فذلك الصمد الذي أنبأ عنه اسمه إله الذي أنزل فيه إلزام الإخلاص والتوحيد منذ عبدت في الأرض الأصنام، فلذلك نضم توحيد اسمه الإله بأحدية مسمى هو من اسمه العظيم "الله" ، ورجع عليه باسم المضمر الذي هو في جبلات الأنفس وغرائز القلوب الذي تجده غيبا في بواطنها فتقول فيه: هو، فكان هذا الخطاب مبدوءا بالاسم العظيم المظهر منتهيا إلى الاسم المضمر، كما كان خطاب
قل هو الله أحد [مبدوءا بالاسم المضمر منتهيا إلى الاسم العظيم المظهر، وكذلك أيضا اسم الله الأعظم في سورة
قل هو الله أحد ] كما هو في [هذه] الفاتحة.
ولما كان لبادي الخلق افتقار [إلى قوام] لا يثبت طرفة عين دون قوامه كان القوام البادي آيته هي الحياة فما حيي ثبت وما مات فني وهلك; انتهى ولما كان المتفرد بالملك من أهل الدنيا
[ ص: 205 ] يموت قال:
الحي أي الحياة الحقيقية التي لا موت معها. ولما كان الحي قد يحتاج في التدبير إلى وزير لعجزه عن الكفاية بنفسه في جميع الأعمال قال:
القيوم إعلاما بأن به قيام كل شيء وهو قائم على كل شيء. قال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي: فكما أن الحياة بنفخة من روح أمره فكل متماسك على صورته حي بقيوميته انتهى.
وفي وصفه بذلك إعلام بأنه قادر على نصر جنده وإعزاز دينه وعون وليه، وحث على مراقبته بجهاد أعدائه ودوام الخضوع لديه والضراعة إليه. ولما كان من معنى القيوم أنه المدبر للمصالح اتصل به الإعلام بتنزيل ما يتضمن ذلك، وهو الكتاب المذكور في قوله:
بما أنـزل إليه من ربه والكتب المذكورة في أول البقرة في قوله:
بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك وفي آخرها [بقوله]
وكتبه ورسله التي من جملتها التوراة والإنجيل اللذان فيهما الآصار المرفوعة عنا، ثم شرح بعده أمر التصوير في الأحشاء، وذلك لأن المصالح قسمان: روحانية وجسمانية، وأشرف المصالح الروحانية العلم الذي هو الروح كالروح للبدن فإنها تصير به مرآة مجلوة ينجلي فيها صور الحقائق،
[ ص: 206 ] وأشرف المصالح الجسمانية تعديل المزاج وتسوية البنية في أحسن هيئة، وقدم الروحانية المتكفل بها الكتاب لأنها أشرف.