صفحة جزء
ولما ذكر سبحانه الأخوة الدينية تذكيرا بالعاطف الموجب للإكرام، المانع من الانتقام، ونهى عن أمور يجر إليها الإعجاب بالنفس من جهة التعظيم بالآباء والعراقة في النسب العالي، أسقط [ذلك] مبينا أن لا نسب إلا ما يثمره الإيمان الذي بدأ به من التقوى، وعبر بما يدل على الذبذبة والاضطراب إشارة إلى سفول رتبة من افتخر بالنسب، وإلى [أن] من [لم] يتعظ بما مضى فيعلو عن رتبة الذين آمنوا فقد سفل سفولا عظيما: يا أيها الناس أي: كافة المؤمن وغيره إنا على عظمتنا وقدرتنا خلقناكم أي: أوجدناكم عن العدم [ ص: 382 ] على ما أنتم عليه من المقادير في صوركم وما أنتم عليه من التشعب الذي يفوت الحصر، وأخرجنا كل واحد منكم من ذكر هو المقصود بالعزم والقوة وأنثى هي موضع الضعف والراحة، لا مزية لأحد منكم في ذلك على آخر، ولا فخر في نسب.

ولما كان تفضيلهم إلى فرق لكل منهما تعرف [به] أمرا باهرا، عبر فيه بنون العظمة فقال: وجعلناكم أي: بعظمتنا شعوبا تتشعب من أصل واحد، جمع شعب بالفتح و [هو] الطبقة الأولى من الطبقات الست من طبقات النسب التي عليهاالعرب وقبائل تحت الشعوب، وعمائر تحت القبائل، وبطونا تحت العمائر، [و] أفخاذا تحت البطون، وفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل، خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وعبد مناف فخذ، وهاشم فصيلة، والعباس عشيرة، قال البغوي : وليس بعد العشيرة حي يوصف به. انتهى. واقتصر على الأولين لأنهما أقصى ما يسهل على الآدمي معرفته فما دونه أولى، ثم ذكر علة التشعب ليوقف عندها فقال: لتعارفوا أي: ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له، لا لتواصفوا وتفاخروا.

ولما كانت فائدة التفاخر بالتواصف عندهم الإكرام لمن كان [ ص: 383 ] أفخر، فكانت الآية السالفة التي ترتبت عليها هذه آمرة بالتقوى كان التقدير: فتتقوا الله في أقاربكم وذوي أرحامكم، فقال مبطلا للتفاخر بالأنساب معللا لما أرشد إلى تقديره السياق مؤكدا لأجل ما عندهم من أن الكرم إنما هو بالنسب: إن أكرمكم أيها المتفاخرون عند الله أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أكرمكم بكرمه ولا كمال لأحد سواه أتقاكم فذلك هو الذكر الذي يصح أصله باقتدائه بأبيه آدم عليه السلام فلم يمل إلى الأنوثة وإن كان أدناكم نسبا ولذلك أكده، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا». أي: علموا بأن كانت لهم ملكة الفقه فعملوا بما علموا كما قال الحسن رحمه الله: إنما الفقيه العامل بعلمه. وقد تقدم أن هذا [هو] المراد بقوله تعالى: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون لما دل عليه سياقها وسباقها، والأتقى لا يفتخر على غيره؛ لأنه لا يعتقد أنه أتقى، قال الرازي في اللوامع: أكرم الكرم التقوى، وهو مجمع الفضائل الإنسانية، وألأم اللؤم الفجور، وذلك أن الكرم اسم للأفعال المحمودة، وهذه الأفعال إنما تكون محمودة إذا كانت عن علم، وقصد بها الله، وهذا هو التقوى، فليس التقوى إلا العلم وتحري الأفعال المحمودة. انتهى. وذلك لأن التقوى تثبت الكمالات وتنفي النقائص فيصير [ ص: 384 ] صاحبها بشريا ملكيا.

ولما كان هذا مركوزا في طبائعهم مغروزا في جبلاتهم متوارثا عندهم أن الفخر إنما هو بالأنساب، وأن الكريم إنما هو من طاب أصله، وكان قلع ذلك من نفوسهم فيما أجرى به سبحانه العادة في دار الأسباب يتوقف على تأكيد، أكد سبحانه معللا قوله لإخباره بالأكرم: إن الله أي: المحيط علما وقدرة عليم أي: بالغ العلم بالظواهر خبير محيط العلم بالبواطن والسرائر أيضا، روى البغوي بسند من طريق عبد الله بن حميد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته ليستلم الأركان بمحجنه، فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال، ثم قام فخطبهم ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: «الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها بآبائها، [إنما] الناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله - ثم تلا: يا أيها الناس الآية. ثم قال: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم». وأخرجه أبو داود والترمذي [وحسنه] والبيهقي . قال المنذري، بإسناد [حسن، و] اللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال: «إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب، مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون [ ص: 385 ] برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها».

التالي السابق


الخدمات العلمية