ولما وسط بين العدد هذه الجمل الواعظة دلالة على عظمتها حثا على امتثالها والمبادرة إليها، وختم بالتقدير، أتبع ذلك بيان مقادير العدد على وجه أبان أن الكلام الماضي كان في الحوائض الرجعيات فقال:
واللائي يئسن أي من المطلقات
من المحيض أي الحيض وزمانه لوصولها إلى سن يجاوز القدر الذي ترجو فيه النساء الحيض فصارت بحيث لا ترجوه، وذلك السن خمس وخمسون سنة أو ستون سنة، وقيل: سبعون وهن القواعد، وأما من انقطع حيضها في زمن ترجو فيه الحيض فإنها تنتظر سن اليأس.
ولما كان هذا الحكم خاصا بأزواج المسلمين لحرمة فرشهم وحفظ أنسابهم قال:
من نسائكم أي أيها المسلمون سواء كن مسلمات أو من أهل الكتاب، ولما كان
الموجب للعدة إنما هو الدخول لا مجرد الطلاق قال:
إن ارتبتم بأن أجلتم النظر في أمرهن، فأداكم إلى ريب [ في -] هل هن حاملات أم لا، وذلك بالدخول عليهن الذي هو
[ ص: 156 ] سبب الريب بالحمل في الجملة
فعدتهن ثلاثة أشهر كل شهر يقوم مقام حيضة لأن أغلب عوائد النساء أن يكون كل قرء في شهر.
ولما أتم قسمي ذوات الحيض إشارة وعبارة قال:
واللائي لم يحضن أي لصغرهن أو لأنهن لا حيض لهن أصلا وإن كن بالغات فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا، وهذا مشير إلى أن أولات الحيض بائنات كن أو لا عدتهن ثلاثة قروء كما تقدم في البقرة لأن هذه الأشهر عوض عنها، فإما أن يكون القرء - وهو الطهر - بين حيضتين، أو بين الطلاق والحيض، وهذا كله في المطلقة، وأما المتوفى عنها زوجها فأربعة أشهر وعشرا كما في البقرة.
ولما فرغ من آئسات الحوامل أتبعه ذكر الحوامل فقال:
وأولات الأحمال أي من جميع الزوجات المسلمات والكفار المطلقات على كل حال والمتوفى عنهن إذا كان حملهن من الزوج مسلما كان أو لا
أجلهن أي لمنتهى العدة سواء كان لهن مع الحمل حيض أم لا
أن يضعن ولما كان توحيد الحمل لا ينشأ عنه لبس، وكان الجمع ربما أوهم أنه لا تحل واحدة منهن حتى يضع جمعا قال:
[ ص: 157 ] حملهن وهذا على عمومه مخصص لآية
يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا لأن المحافظة على عمومه أولى من المحافظة على عموم ذلك في قوله: " أزواجا " لأن عموم هذه بالذات لأن الموصول من صيغ العموم، وعموم " أزواجا " بالعرض لأنه بدلي لا يصلح لتناول جميع الأزواج في حال واحد، والحكم معلل هنا بوصف الحملية بخلاف ذاك ولأن
سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليال، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج، ولأن هذه الآية متأخرة النزول عن آية البقرة، فتقديمها على تلك تخصيص، وتقديم تلك في العمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم فهو نسخ والأول هو الراجح للوفاق عليه، فإن كان الحمل من زنا أو شبهة فلا حرمة له، والعدة بالحيض.
ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة من المعاسرة والمياسرة في غاية المشقة، فلا يحمل على العدل فيها والعفة إلا خوف الله، كرر تلميعا بالحث على التقوى إشارة إلى ذلك وترغيبا في لزوم ما حده سبحانه، فقال عاطفا على [ ما -] تقديره: فمن لم يحفظ هذه الحدود عسر الله عليه أموره:
ومن يتق الله أي يوجد الخوف من الملك الأعظم إيجادا مستمرا ليجعل بينه وبين سخطه وقاية من طاعاته اجتلابا للمأمور واجتنابا للمنهي
يجعل له أي يوجد إيجادا مستمرا باستمرار
[ ص: 158 ] التقوى "إن الله لا يمل حتى تملوا"
من أمره أي كله في النكاح وغيره
يسرا أي سهولة وفرجا وخيرا في الدارين بالدفع والنفع، وذلك أعظم من مطلق المخرج المتقدم في الآية الأولى.