وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .
قوله تعالى: "
وإذ قال موسى لفتاه . . . " الآية، سبب خروج
موسى عليه السلام في هذا السفر، ما روى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، عن
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=654356إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم ؟ فقال: أنا، فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ; قال موسى: يا رب فكيف لي به ؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم . فانطلق [ ص: 162 ] معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه، فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق . فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد، قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال فتاه: "أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة . . . " إلى قوله: "عجبا،" قال: فكان للحوت سربا، ولموسى ولفتاه عجبا، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، "فارتدا على آثارهما قصصا" . قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هو مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام ! من أنت ؟ قال: أنا موسى . قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا . قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى، إني على علم من علم الله لا تعلمه علمنيه، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ; فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم قد حملونا بغير نول عمدت [ ص: 163 ] إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها . . . إلى قوله: عسرا ؟ ! قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت الأولى من موسى نسيانا، وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل ; إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أقتلت نفسا زاكية إلى قوله: يريد أن ينقض، فقال الخضر بيده [ هكذا ]، فأقامه . فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا . قال: هذا فراق بيني وبينك . . . الآية " . هذا حديث صحيح أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم في " الصحيحين " ، وقد ذكرنا إسناده في كتاب " الحدائق " ، فآثرنا الاختصار هاهنا .
فأما التفسير فقوله تعالى: "
وإذ قال موسى " المعنى: واذكر ذلك . وفي
موسى قولان:
أحدهما: أنه
موسى بن عمران، قاله الأكثرون . ويدل عليه ما روي في " الصحيحين " من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير، قال: قلت
nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس: إن
نوفا البكالي يزعم أن
موسى بني إسرائيل ليس هو
موسى صاحب
الخضر، قال:
[ ص: 164 ] كذب عدو الله، أخبرني
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب . . . . فذكر الحديث الذي قدمناه آنفا .
والثاني: أنه
موسى بن ميشا، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق، وليس بشيء ; للحديث الصحيح الذي ذكرناه . فأما فتاه فهو
يوشع بن نون من غير خلاف، وإنما سمي فتاه ; لأنه كان يلازمه ويأخذ عنه العلم ويخدمه .
ومعنى "
لا أبرح " : لا أزال . وليس المراد به: لا أزول ; لأنه إذا لم يزل لم يقطع أرضا، فهو مثل قولك: ما برحت أناظر عبد الله ; أي: ما زلت، قال الشاعر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع
أي: أثقلتك، والمعنى: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ; أي: ملتقاهما، وهو الموضع الذي وعده الله بلقاء
الخضر فيه . قال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة: بحر فارس، وبحر الروم، فبحر الروم نحو المغرب،
وبحر فارس نحو المشرق .
وفي اسم البلد الذي بمجمع البحرين قولان:
أحدهما:
إفريقية، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب . والثاني:
طنجة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي .
قوله تعالى: "
أو أمضي حقبا " وقرأ
أبو رزين، nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن، وأبو مجلز،
nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة، والجحدري، nindex.php?page=showalam&ids=17344وابن يعمر: ( حقبا ) بإسكان القاف . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة: الحقب: الدهر، والحقب: السنون، واحدتها حقبة، ويقال: حقب وحقب، كما يقال: قفل وقفل، وهزؤ وهزؤ، وكفؤ وكفؤ، وأكل
[ ص: 165 ] وأكل، وسحت وسحت، ورعب ورعب، ونكر ونكر، وأذن وأذن، وسحق وسحق، وبعد وبعد، وشغل وشغل، وثلث وثلث، وعذر وعذر، ونذر ونذر، وعمر وعمر .
وللمفسرين في المراد بالحقب هاهنا ثمانية أقوال:
أحدها: أنه الدهر، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . والثاني: ثمانون سنة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة . والثالث: سبعون ألف سنة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن . والرابع: سبعون سنة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد . والخامس: سبعة عشر ألف سنة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=17132مقاتل بن حيان . والسادس: أنه ثمانون ألف سنة، كل يوم ألف سنة من عدد الدنيا . والسابع: أنه سنة بلغة
قيس، ذكرهما
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء . والثامن: الحقب عند
العرب وقت غير محدود، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة . ومعنى الكلام: لا أزال أسير، ولو احتجت أن أسير حقبا .
قوله تعالى: "
فلما بلغا " يعني:
موسى وفتاه، "
مجمع بينهما " يعني: البحرين، "
نسيا حوتهما " وكانا قد تزودا حوتا مالحا في زبيل، فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر وضع فتاه المكتل، فأصاب الحوت بلل البحر . وقيل: توضأ
يوشع من عين الحياة فانتضخ على الحوت الماء فعاش، فتحرك في المكتل، فانسرب في البحر، وقد كان قيل
لموسى: تزود حوتا مالحا، فإذا فقدته وجدت الرجل . وكان
موسى حين ذهب الحوت في البحر قد مضى لحاجة، فعزم فتاه أن يخبره بما جرى فنسي . وإنما قيل: "
نسيا حوتهما " توسعا في الكلام ; لأنهما جميعا تزوداه، كما يقال: نسي القوم زادهم، وإنما نسيه أحدهم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء: ومثله قوله:
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن: 22 ]، وإنما يخرج ذلك من الملح لا من العذب . وقيل: نسي
يوشع [ ص: 166 ] أن يحمل الحوت، ونسي
موسى أن يأمره فيه بشيء ; فلذلك أضيف النسيان إليهما .
قوله تعالى: "
فاتخذ سبيله في البحر سربا " ; أي: مسلكا ومذهبا . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة: جعل لا يسلك طريقا إلا صار الماء جامدا . وقد ذكرنا في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب أن الماء صار مثل الطاق على الحوت .
قوله تعالى: "
فلما جاوزا " ذلك المكان الذي ذهب فيه الحوت، أصابهما ما يصيب المسافر من النصب، فدعا
موسى بالطعام، فقال: "
آتنا غداءنا " ، وهو الطعام الذي يؤكل بالغداة . والنصب: الإعياء . وهذا يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من الأذى والتعب، ولا يكون ذلك شكوى . "
قال "
يوشع لموسى: "
أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة " ; أي: حين نزلنا هناك، "
فإني نسيت الحوت " فيه قولان:
أحدهما: نسيت أن أخبرك خبر الحوت . والثاني: نسيت حمل الحوت .
قوله تعالى: "
وما أنسانيه " قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي: ( أنسانيه ) بإمالة السين [ مع كسر الهاء ] . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير: ( أنسانيهي ) بإثبات ياء في الوصل بعد الهاء . وروى
حفص عن
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم: ( أنسانيه إلا ) بضم الهاء [ في الوصل ] .
قوله تعالى: "
واتخذ سبيله في البحر عجبا " الهاء في السبيل ترجع إلى الحوت . وفي المتخذ قولان:
أحدهما: أنه الحوت، ثم في المخبر عنه قولان:
أحدهما: أنه الله عز وجل، ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: فاتخذ سبيله في البحر يرى عجبا ويحدث عجبا . والثاني: أنه لما قال الله تعالى:
[ ص: 167 ] "
واتخذ سبيله في البحر " ، قال: اعجبوا لذلك عجبا، وتنبهوا لهذه الآية . والثالث: أن إخبار الله تعالى انقطع عند قوله: "
في البحر " ، فقال
موسى: عجبا، لما شوهد من الحوت . ذكر هذه الأقوال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري .
والثاني: [ أن ] المخبر عن الحوت
يوشع، وصف
لموسى ما فعل الحوت .
والقول الثاني: أن المتخذ
موسى، اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا، فدخل في المكان الذي مر فيه الحوت فرأى
الخضر . وروى
عطية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، قال: رجع
موسى إلى الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه
موسى، حتى انتهى به إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي
الخضر .
قوله تعالى: "
قال " يعني:
موسى، "
ذلك ما كنا نبغ " ; أي: ذلك الذي نطلب من العلامة الدالة على مطلوبنا . قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير: ( نبغي ) بياء في الوصل والوقف . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع، nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي بياء في الوصل . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16447ابن عامر، nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم، nindex.php?page=showalam&ids=15760وحمزة بحذف الياء في الحالين .
قوله تعالى: "
فارتدا على آثارهما " قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج: أي: رجعا في الطريق الذي سلكاه يقصان الأثر . والقصص: اتباع الأثر .
قوله تعالى: "
فوجدا عبدا من عبادنا " يعني:
الخضر .
وفي اسمه أربعة أقوال:
أحدها:
اليسع، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب nindex.php?page=showalam&ids=17132ومقاتل . والثاني:
الخضر بن عاميا . والثالث:
أرميا بن حلفيا، ذكرهما
nindex.php?page=showalam&ids=12915ابن المنادي . والرابع:
بليا بن ملكان، ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=15466علي بن أحمد النيسابوري .
فأما تسميته
بالخضر ففيه قولان:
[ ص: 168 ]
أحدهما: أنه جلس في فروة بيضاء فاخضرت، رواه
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والفروة: الأرض اليابسة .
والثاني: أنه كان إذا جلس اخضر ما حوله، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد: كان إذا صلى اخضر ما حوله .
وهل كان الخضر نبيا أم لا ؟ فيه قولان ذكرهما
nindex.php?page=showalam&ids=13742أبو بكر بن الأنباري، وقال: كثير من الناس يذهب إلى أنه كان نبيا، وبعضهم يقول: كان عبدا صالحا . واختلف العلماء هل هو باق إلى يومنا هذا على قولين، حكاهما
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن يذهب إلى أنه مات، وكذلك كان
nindex.php?page=showalam&ids=12915ابن المنادي من أصحابنا يقول، ويقبح قول من يرى بقاءه ويقول: لا يثبت حديث في بقائه . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=15426أبو بكر النقاش أن
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمد بن إسماعيل البخاري سئل عن
الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء ؟ فقال: كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=650566لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد " .
قوله تعالى: "
آتيناه رحمة من عندنا " في هذه الرحمة ثلاثة أقوال:
[ ص: 169 ]
أحدها: أنها النبوة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=17132مقاتل . والثاني: الرقة والحنو على من يستحقه، ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري . والثالث: النعمة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12033أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى: "
وعلمناه من لدنا " ; أي: من عندنا، " علما " قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: أعطاه علما من علم الغيب .