تنبيهات:
الأول: قال
nindex.php?page=showalam&ids=13926البيضاوي : إن قوله تعالى:
فإن تنازعتم يؤيد أن المراد بأولي الأمر الأمراء لا العلماء، قال: إذ
ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس، ثم قال: إلا أن يقال: الخطاب لأولي الأمر على طريقة الالتفات، وتابعه
أبو السعود .
قال
الخفاجي: وجه التأييد أن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء، إذ المراد بهم المجتهدون، والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم، والمراد بالمرؤوس (على وزن المفعول) العامة التابعة للرائس والرئيس، فإذا كان الخطاب في (تنازعتم) لأولي الأمر على الالتفات صح إرادة العلماء؛ لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة، فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل. انتهى.
وفي قوله: (إذ ليس للمقلد إلخ) ما ستراه.
[ ص: 1348 ] الثاني: فهم كثير من الناس والمفسرين أيضا أن طاعة أولي الأمر العلماء تقليدهم فيما يفتون به، وهو غلط، قال الإمام ابن القيم في "أعلام الموقعين" في:
فصل
في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان
قال المقلد: وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر - وهم العلماء، أو العلماء والأمراء - وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، فإنه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم، قال: وجوابه أن أولي الأمر قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد، والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين، وطاعتهم من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن خفي على المقلدين أنهم يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيثار التقليد عليها؟!
ثم قال
ابن القيم: إن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم وأعظمها إبطالا للتقليد، وذلك من وجوه:
أحدها: الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه.
الثاني: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون العبد مطيعا لله ولرسوله حتى يكون عالما بأمر الله تعالى ورسوله، وأما من هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - البتة.
الثالث: أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم، كما صح ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل، nindex.php?page=showalam&ids=10وعبد الله بن مسعود، nindex.php?page=showalam&ids=12وعبد الله بن عمر، nindex.php?page=showalam&ids=11وعبد الله بن عباس، وغيرهم من الصحابة، وذكرناه عن الأئمة الأربعة وغيرهم، وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد، وإن لم تكن واجبة بطل الاستدلال.
الرابع: أنه سبحانه وتعالى قال في الآية نفسها:
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد، فإن قيل: فما هي طاعتهم المختصة بهم؟
[ ص: 1349 ] فإن كانت الطاعة فيما يخبرون به عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كانت الطاعة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا لهم، قيل: هذا هو الحق، وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال، ولهذا قرنها بطاعة الرسول، وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعا كما يطاع أولو الأمر تبعا، وليس كذلك، بل طاعته واجبة استقلالا، كان ما أمر به أو نهى عنه في القرآن أو لم يكن. انتهى.
وقال رحمه الله تعالى قبل ذلك: إن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم، وسلكوا ضد طريق أهل العلم، أما أمر الله تعالى فإنه أمر أن يرد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى من قلدناه.
وأما أمر رسوله فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين، وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ، وقال المقلدون: بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه على كل ما عداه.
وأما هدي الصحابة - رضي الله عنهم - فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن شخص واحد يقلد رجلا في جميع أقواله ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا ولا يقبل من أقوالهم شيئا، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث.
وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه، كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق ذلك منها قبلوه ودانوا الله تعالى به، وقبضوا به وأفتوا به، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه، وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع، من غير أن يلزموا بها أحدا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها، هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا، وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين، فزيفوا كتاب الله سبحانه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال خلفائه وجميع أصحابه، وعرضوها على أقوال من قلدوه فما وافقها منها قالوا: لنا، وانقادوا له مذعنين، وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا: احتج الخصم
[ ص: 1350 ] بكذا وكذا، ولم يقبلوه ولم يدينوا به، واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن، وتطلبوا لها وجوه الحيل التي يرونها، حتى إذا كانت موافقة لمذهبهم، وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها، شنعوا على منازعهم وأنكروا عليهم ردها بمثل تلك الوجوه بعينها، وقالوا: لا ترد النصوص بهذا، ومن له همة تسمو إلى الله ومرضاته، ونصر الحق الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم - أين كان ومع من كان - لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم. انتهى.
الثالث: إن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله:
فردوه إلى الله والرسول أي: فوضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له؟ وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية؟
قلنا: أما الأول فمدفوع، وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين:
منها ما يكون حكمها منصوصا عليه، ومنها ما لا يكون كذلك، ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد، وأمر في القسم الثاني بالاجتهاد فيه، وهو الرد إلى الله وإلى الرسول ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت؛ لأن الواقعة بما كانت لا تحتمل ذلك، بل لا بد من قطع للشغب والخصومة فيها، بنفي أو إثبات، وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله على السكوت عن تلك الواقعة.
وأما السؤال الثاني: فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل، فلا يكون رد الواقعة إليها ردا إلى الله بوجه من الوجوه، أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها كان هذا ردا للواقعة على أحكام الله تعالى، فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى: أفاده
الرازي .
الرابع: استدل مثبتو القياس بقوله تعالى:
فردوه إلى الله إلخ قالوا: معنى الآية: فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة، فردوا حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له، وذلك هو القياس، قالوا: ولو كان المراد من قوله تعالى:
فردوه إلى الله والرسول طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة - لكان داخلا تحت
[ ص: 1351 ] قوله:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وهو إعادة لعين ماضي (كذا) وهو غير جائز.
وقد توسع
الرازي في تقرير ذلك ههنا، كما توسع في أن قوله تعالى (وأولي الأمر) إشارة إلى الإجماع، فتكون الآية -بزعمه - دلت على الأصول الأربع، ولا يخفى ما في هذا التعمق من دقيق الاستنباط.
الخامس: قدمنا رواية
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في سبب نزول هذه الآية، وأن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال: نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=196عبد الله بن حذافة.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14277الداودي (شارح الصحيح): هذا وهم على
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، فإن
nindex.php?page=showalam&ids=196عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب عليهم، فأمرهم أن يوقدوا نارا ويقتحموها، فامتنع بعضهم وهم بعض أن يفعل.
قال: فإن كانت الآية نزلت قبل فكيف يخص
nindex.php?page=showalam&ids=196عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره؟ وإن كانت نزلت بعد فإنما قيل لهم: إنما
الطاعة في المعروف ، وما قيل لهم: لم لم تطيعوه؟ انتهى.
وأجاب الحافظ ابن حجر: أي: المقصود في قصته قوله:
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به، وسببه أن الذين هموا أن يعطوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله وإلى رسوله، أي: إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه فارجعوا إلى الكتاب والسنة، والله أعلم.
ولما أوجب تعالى على جميع المكلفين أن يطيعوا الله ورسوله آثرها بأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه، وإنما يريدون حكم غيره، فقال: