فصل
وقوله : { سيذكر من يخشى } يقتضي أن كل من يخشى يتذكر . والخشية قد تحصل عقب الذكر وقد تحصل قبل الذكر وقوله : {
من يخشى } مطلق .
ومن الناس من يظن أن ذلك يقتضي أنه لا بد أن يكون قد خشي أولا حتى يذكر وليس كذلك . بل هذا كقوله : {
هدى للمتقين } وقوله : {
إنما أنت منذر من يخشاها } وقوله : {
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } وقوله : {
إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } وهو إنما خاف الوعيد بعد أن سمعه لم يكن وعيد قبل سماع القرآن وكذلك قوله : {
إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } وهو إنما اتبع الذكر وخشي الرحمن بعد أن أنذره الرسول .
وقد لا يكونون خافوها قبل الإنذار ولا كانوا متقين قبل سماع
[ ص: 172 ] القرآن بل به صاروا متقين .
وهذا كما يقول القائل : ما يسمع هذا إلا سعيد وإلا مفلح وإلا من رضي الله عنه . وما يدخل في الإسلام إلا من هداه الله ونحو ذلك . وإن كانت هذه الحسنات والنعم تحصل بعد الإسلام وسماع القرآن .
ومثل هذا قوله : {
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون } وقد قال في نظيره {
ويتجنبها الأشقى } وإنما يشقى بتجنبها .
وهذا كما يقال : إنما يحذر من يقبل وإنما ينتفع بالعلم من عمل به .
فمن استمع القرآن فآمن به وعمل به صار من المتقين الذين هو هدى لهم . ومن لم يؤمن به ولم يعمل به لم يكن من المتقين ; ولم يكن ممن اهتدى به .
بل هو كما قال الله تعالى : {
قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى } ولم يرد أنهم كانوا مؤمنين . فلما سمعوه صار هدى وشفاء ; بل إذا سمعه الكافر فآمن به صار في حقه هدى وشفاء وكان من المؤمنين به بعد سماعه .
[ ص: 173 ] وهذا كقوله في النوع المذموم : {
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين } {
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } ولا يجب أن يكونوا فاسقين قبل ضلالهم ; بل من سمعه فكذب به صار فاسقا وضل .
وسعد بن أبي وقاص وغيره أدخلوا في هذه الآية أهل الأهواء
كالخوارج . وكان
سعد يقول : هم من {
الفاسقين } {
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } ولم يكن
علي وسعد وغيرهما من
الصحابة يكفرونهم .
وسعد أدخلهم في هذه الآية لقوله : {
وما يضل به إلا الفاسقين } وهم ضلوا به بسبب تحريفهم الكلم عن مواضعه وتأويله على غير ما أراد الله . فتمسكوا بمتشابهه وأعرضوا عن محكمه وعن السنة الثابتة التي تبين مراد الله بكتابه . فخالفوا السنة وإجماع
الصحابة مع ما خالفوه من محكم كتاب الله تعالى .
ولهذا أدخلهم كثير من
السلف في الذين {
يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } {
الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود الآية وقد دلت على أن كل من يخشى فلا بد أن
[ ص: 174 ] يتذكر . فقد يتذكر فتحصل له بالتذكر خشية وقد يخشى فتدعوه الخشية إلى التذكر .
وهذا المعنى ذكره
قتادة : فقال : والله ما خشي الله عبد قط إلا ذكره .
{
ويتجنبها الأشقى } قال
قتادة : فلا والله لا يتنكب عبد هذا الذكر زهدا فيه وبغضا له ولأهله إلا شقيا بين الشقاء .
والخشية في القرآن مطلقة تتناول خشية الله وخشية عذابه في الدنيا والآخرة .
قال الله تعالى : {
يسألونك عن الساعة أيان مرساها } {
فيم أنت من ذكراها } {
إلى ربك منتهاها } {
إنما أنت منذر من يخشاها } وقال تعالى : {
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } وقال تعالى : {
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب } {
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق } وقال : {
قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } {
فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم }