الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 175 ] فصل الكلام على قوله { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } وفي هذه الآية قال : { سيذكر من يخشى } وقال في قصة فرعون : { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } فعطف الخشية على التذكر .

                وقال : { لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } وفي قصة الرجل الصالح المؤمن الأعمى قال : { وما يدريك لعله يزكى } { أو يذكر فتنفعه الذكرى } وقال في { حم } المؤمن : { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير } { هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب } فقال { وما يتذكر إلا من ينيب } [ ص: 176 ] والإنابة جعلها مع الخشية في قوله : { هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ } { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } { ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود } وذلك لأن الذي يخشى الله لا بد أن يرجوه ويطمع في رحمته فينيب إليه ويحبه ويحب عبادته وطاعته فإن ذلك هو الذي ينجيه مما يخشاه ويحصل به ما يحبه .

                والخشية لا تكون ممن قطع بأنه معذب ; فإن هذا قطع بالعذاب يكون معه القنوط واليأس والإبلاس . ليس هذا خشية وخوفا .

                وإنما يكون الخشية والخوف مع رجاء السلامة . ولهذا قال : { ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم } فصاحب الخشية لله ينيب إلى الله كما قال : { وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد } { هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ } { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } { ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود } وهذا يكون مع تمام الخشية والخوف .

                فأما في مباديها فقد يحصل للإنسان خوف من العذاب والذنب [ ص: 177 ] الذي يقتضيه فيشتغل بطلب النجاة والسلام ويعرض عن طلب الرحمة والجنة .

                وقد يفعل مع سيئاته حسنات توازيها وتقابلها فينجو بذلك من النار ولا يستحق الجنة بل يكون من أصحاب الأعراف . وإن كان مآلهم إلى الجنة فليسوا ممن أزلفت لهم الجنة أي قربت لهم إذ كانوا لم يأتوا بخشية الله والإنابة إليه . واستجمل بعد ذلك .

                فصل وأما قوله في قصة فرعون : { لعله يتذكر أو يخشى } وقوله : { وما يدريك لعله يزكى } { أو يذكر فتنفعه الذكرى } فلا يناقض هذه الآية . لأنه لم يقل في هذه الآية " سيخشى من يذكر " بل ذكر أن كل من خشي فإنه يتذكر إما أن يتذكر فيخشى وإن كان غيره يتذكر فلا يخشى ; وإما أن تدعوه الخشية إلى التذكر . فالخشية مستلزمة للتذكر . فكل خاش متذكر .

                كما قال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } فلا يخشاه إلا [ ص: 178 ] عالم فكل خاش لله فهو عالم . هذا منطوق الآية .

                وقال السلف وأكثر العلماء إنها تدل على أن كل عالم فإنه يخشى الله كما دل غيرها على أن كل من عصى الله فهو جاهل .

                كما قال أبو العالية : سألت أصحاب محمد عن قوله : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } فقالوا لي : " كل من عصى الله فهو جاهل " . وكذلك قال مجاهد والحسن البصري وغيرهم من العلماء التابعين ومن بعدهم .

                وذلك أن الحصر في معنى الاستثناء والاستثناء من النفي إثبات عند جمهور العلماء . فنفى الخشية عمن ليس من العلماء ; وهم العلماء به الذين يؤمنون بما جاءت به الرسل يخافونه .

                قال تعالى : { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } وأثبتها للعلماء .

                فكل عالم يخشاه . فمن لم يخش الله فليس من العلماء بل من الجهال كما قال عبد الله بن مسعود : " كفى بخشية الله علما وكفى [ ص: 179 ] بالاغترار بالله جهلا " . وقال رجل للشعبي " أيها العالم " فقال : " إنما العالم من يخشى الله " فكذلك قوله : { سيذكر من يخشى } يقتضي أن كل من يخشاه فلا بد أن يكون ممن تذكر .

                وقد ذكر أن الأشقى يتجنب الذكرى فصار الذي يخشى ضد الأشقى . فلذلك يقال " كل من تذكر خشي " .

                والتحقيق أن التذكر سبب الخشية فإن كان تاما أوجب الخشية ; كما أن العلم سبب الخشية فإن كان تاما أوجب الخشية .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية