فإن
قوله : { قل يا أيها الكافرون } خطاب لكل كافر وكان يقرأ بها في
المدينة بعد موت أولئك المعينين ويأمر بها ويقول هي براءة من الشرك . فلو كانت خطابا لأولئك المعينين أو لمن علم منهم أنه يموت كافرا لم يخاطب بها من لم يعلم ذلك منه .
وأيضا فأولئك المعينون إن صح أنه إنما خاطبهم فلم يكن إذ ذاك علم أنهم يموتون على الكفر .
والقول بأنه إنما خاطب بها معينين قول لم يقله من يعتمد عليه . ولكن قد قال
مقاتل بن سليمان : إنها نزلت في
أبي جهل والمستهزئين ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد . ونقل
مقاتل وحده مما لا يعتمد عليه باتفاق أهل الحديث كنقل
الكلبي .
ولهذا كان المصنفون في التفسير من أهل النقل لا يذكرون عن واحد منهما شيئا
كمحمد بن جرير وعبد الرحمن بن أبي حاتم وأبي بكر بن المنذر فضلا عن مثل
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه .
وقد ذكر غيره هذا عن
قريش مطلقا كما رواه
عبد بن حميد [ ص: 541 ] عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه قال : قالت
قريش للنبي صلى الله عليه وسلم إن سرك أن ندخل في دينك عاما وتدخل في ديننا عاما فنزلت {
قل يا أيها الكافرون } حتى ختمها . وعن
ابن عباس قالت
قريش : يا
محمد لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك فنزلت السورة . وعن
قتادة قال : أمره الله أن ينادي الكفار فناداهم بقوله {
يا أيها } .
وروى
ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه . قال كفار
قريش فذكره . وقال
عكرمة : برأه الله بهذه السورة من عبدة جميع الأوثان ودين جميع الكفار وقال
قتادة : أمر الله نبيه أن يتبرأ من
المشركين فتبرأ منهم .
وروى
قتادة عن
زرارة بن أوفى : كانت تسمى " المقشقشة " . يقال : قشقش فلان إذا برئ من مرضه فهي تبرئ . صاحبها من الشرك .
وبهذا نعتها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف في المسند
والترمذي من حديث
إسرائيل عن
أبي إسحاق عن {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597897فروة بن نوفل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : مجيء ما جاء بك ؟ قال : جئت يا رسول الله لتعلمني شيئا أقوله عند منامي . قال : إذا أخذت مضجعك فاقرأ { قل يا أيها الكافرون } ثم نم على [ ص: 542 ] خاتمتها فإنها براءة من الشرك } " .
رواه غير واحد عن
أبي إسحاق وكان تارة يسنده وتارة يرسله رواه عنه
زهير وإسرائيل مسندا ; ورواه عنه
شعبة ولم يذكر عن أبيه وقال " عن
أبي إسحاق عن رجل عن
فروة بن نوفل " ولم يقل " عن أبيه " . قال
الترمذي : وحديث
زهير أشبه وأصح من حديث
شعبة . قال : وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه فرواه
عبد الرحمن بن نوفل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم
وعبد الرحمن بن نوفل هو أخو
فروة بن نوفل .
قلت : وقد رواه عن
أبي إسحاق إسماعيل بن أبي خالد قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597898جاء رجل من أشجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله علمني كلاما أقوله عند منامي . قال : إنك لنا ظئر اقرأ { قل يا أيها الكافرون } عند منامك فإنها براءة من الشرك } " .
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من المسلمين أن يقرأها وأخبره أنها براءة من الشرك . فلو كان الخطاب لمن يموت على الشرك كانت براءة من دين أولئك فقط لم تكن براءة من الشرك الذي يسلم صاحبه فيما بعد . ومعلوم أن المقصود منها أن تكون براءة من كل شرك اعتقادي وعملي .
[ ص: 543 ] وقوله : { لكم دينكم ولي دين } خطاب لكل كافر وإن أسلم فيما بعد . فدينه قبل الإسلام له كان والمؤمنون بريئون منه وإن غفره الله له بالتوبة منه كما قال لنبيه {
فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون } فإنه بريء من معاصي أصحابه وإن تابوا منها . وهذا كقوله : {
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون }
. وروى
ابن أبي حاتم حدثنا أبي ثنا
محمد بن موسى الجرشي ثنا
أبو خلف عبد الله بن عيسى ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15854داود بن أبي هند عن
عكرمة عن {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597899ابن عباس أن قريشا دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل فيهم ويزوجوه ما أراد من النساء ويطئوا عقبه أي يسودوه فقالوا : هذا لك عندنا يا محمد وكف عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء . فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة وهي لك ولنا فيها صلاح . قال : ما هي ؟ . قالوا : تعبد آلهتنا سنة اللات والعزى ونعبد إلهك سنة . قال حتى أنظر ما يأتيني من ربي . فجاءه الوحي من الله من اللوح المحفوظ { قل يا أيها الكافرون } إلى آخرها وأنزل الله عليه { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } } .
[ ص: 544 ] وقوله { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } خطاب لكل من عبد غير الله وإن كان قد قدر له أن يتوب فيما بعد . وكذلك كل مؤمن يخاطب بهذا من عبد غير الله .
وقوله في هذا الحديث " {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597900حتى أنظر ما يأتيني من ربي } " قد يقول هذا من يقصد به دفع الظالمين بالتي هي أحسن ليجعل حجته أن الذي عليه طاعته قد منع من ذلك فيؤخر الجواب حتى يستأمره وإن كان هو يعلم أن هذا القول الذي قالوه لا سبيل إليه .
وقد تخطب إلى الرجل ابنته فيقول : حتى أشاور أمها وهو يريد أن لا يزوجها بذلك ويعلم أن أمها لا تشير له . وكذلك قد يقول النائب : حتى أشاور السلطان .
فليس في مثل هذا الجواب تردد ولا تجويز منه أن الله يبيح له ذلك وقد كان جماعة من
قريش من الذين يأمرونه وأصحابه أن يعبدوا غير الله ويقاتلونهم ويعادونهم عداوة عظيمة على ذلك ثم تابوا وأسلموا وقرءوا هذه السورة .
ومن النقلة من يعين ناسا غير الذين عينهم غيره . منهم من يذكر
أبا جهل وطائفة ومنهم من يذكر
عتبة بن ربيعة وطائفة ومنهم من
[ ص: 545 ] يذكر
الوليد بن مغيرة وطائفة . ومنهم من يقول : طلبوا أن يعبدوا الله معه عاما ويعبد آلهتهم معهم عاما . ومنهم من يقول : طلبوا أن يستلم آلهتهم .
ومنهم من يقول : طلبوا الاشتراك كما روى
ابن أبي حاتم وغيره عن
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق قال : حدثني
سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال {
لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله . فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه . وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه . فأنزل الله السورة }
. وهذا منقول عن
عبيد بن عمير وفيه أن القائل له
عتبة وأمية .
فهذه الروايات متطابقة على معنى واحد وهو أنهم طلبوا منه أن يدخل في شيء من دينهم ويدخلوا في شيء من دينه ثم إن كانت كلها صحيحة فقد طلب منه تارة هذا وتارة هذا وقوم هذا وقوم هذا .
وعلى كل تقدير فالخطاب
للمشركين كلهم من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة .
[ ص: 546 ] وقد أمره الله بالبراءة من كل معبود سواه . وهذه ملة
إبراهيم الخليل وهو مبعوث بملته . قال الله تعالى : {
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون } {
إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } {
وجعلها كلمة باقية في عقبه } .
وقال
الخليل أيضا : {
يا قوم إني بريء مما تشركون } {
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } . وقال {
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } .
وقال لنبيه : {
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } . فقد أمره الله أن يتبرأ من عمل كل من كذبه وتبريه هذا يتناول
المشركين وأهل الكتاب .
وقد ذكر
المهدوي هذا القول وذكر معه قولين آخرين . فقال : الألف واللام ترجع إلى معهود وإن كانت للجنس حيث كانت صفة لأن لامها مخاطبة لمن سبق في علم الله أن يموت كافرا . فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم .
وتكرير ما كرر فيها ليس بتكرير في المعنى ولا في اللفظ سوى
[ ص: 547 ] موضع واحد منها . فإنه تكرير في اللفظ دون المعنى . بل
معنى { لا أعبد ما تعبدون } في الحال {
ولا أنتم عابدون ما أعبد } في الحال {
ولا أنا عابد ما عبدتم } في الاستقبال {
ولا أنتم عابدون ما أعبد } في الاستقبال .
قال : فقد اختلف اللفظ والمعنى في قوله {
لا أعبد } وما بعده {
ولا أنا } . وتكرر {
ولا أنتم عابدون ما أعبد } في اللفظ دون المعنى .
قال : وقيل إن معنى الأول : ولا أنتم عابدون ما عبدت ومعنى الثاني : ولا أنتم عابدون ما أعبد . فعدل عن لفظ " عبدت " للإشعار بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر . وأكثر ما يأتي ذلك في إخبار الله تعالى .
ويجوز أن تكون " ما " والفعل مصدرا وقيل إن معنى الآيات وتقديرها : قل يا أيها الكافرون لا أعبد الأصنام . الذي تعبدون ولا أنتم عابدون الذي أعبده لإشراككم به واتخاذكم معه الأصنام . فإن زعمتم أنكم تعبدونه فأنتم كاذبون لأنكم تعبدونه مشركين به . فأنا لا أعبد ما عبدتم أي مثل عبادتكم . فهو في الثاني مصدر . وكذلك {
ولا أنتم عابدون ما أعبد } هو في الثاني مصدر أيضا معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي التي هي توحيد .
[ ص: 548 ] قلت : القول الثالث هو في معنى الثاني لكن جعل
قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } معنيين : أحدهما بمعنى " ما عبدت " والآخر بمعنى " ما أعبد " ليطابق قوله لهم {
لا أعبد ما تعبدون } {
ولا أنا عابد ما عبدتم } .
فلما تبرأ من أن يعبد في الحال والاستقبال ما يعبدونه في الماضي والحال كذلك برأهم من عبادة ما يعبد في الحال والاستقبال . لكن العبارة عنهم وقعت بلفظ الماضي . قال هؤلاء : وإنما لم يقل في حقه : " ما عبدت " للإشعار بأن ما أعبده في الماضي هو الذي أعبده في المستقبل . قلت : أصحاب هذا القول أرادوا المطابقة كما تقدم .
لكن إذا أريد بقوله : {
ما عبدتم } [ ما أريد ] بقوله : {
ما أعبد } في أحد الموضعين الماضي كان التقدير على ما ذكروه : لا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم في الماضي . فيكون قد نفى عن نفسه في المستقبل عبادة ما عبدوه في الماضي دون ما يعبدونه في المستقبل .
وكذلك إذا قيل : {
ولا أنتم عابدون ما أعبد } أي في الماضي فسواء أريد بما يعبدون الحال أو الاستقبال إنما نفى عبادة ما عبدوه في الماضي . وهذا أنقص لمعنى الآية . وكيف يتبرأ في المستقبل من عبادة ما عبدوه في الماضي فقط ؟ وكذلك هم ؟
[ ص: 549 ] وإن قيل : في المستقبل قد يعبدون الله بالانتقال عن الكفر فهو في الحال والاستقبال لا يعبد ما عبدوه قيل : فعلى هذا لا يقال لهؤلاء ولا أنتم عابدون في المستقبل ما عبدت في الماضي بل قد يعبدون في المستقبل إذا انتقلوا ربه الذي عبده فيما مضى .
وإن قيل : قول هؤلاء هو القول الثاني لا أعبد في الحال ما تعبدون في الحال ولا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل قيل : ولفظ الآية {
ولا أنا عابد ما عبدتم } ليس لفظها " ولا أنا عابد ما تعبدون " . فقوله : {
ما عبدتم } إن أريد به الماضي الذي أراده هؤلاء فسد المعنى وإن أريد به المستقبل بطل ما ذكروه من أن المضارع بمعنى الماضي في قوله : {
ولا أنتم عابدون ما أعبد } فإن الماضي هنا بمعنى المضارع . فإذا كان المضارع مطابقا له بقي مضارعا لم ينقل إلى الماضي فيكون عكس المقصود .
والقول الرابع الذي ذكره قول من جعل " ما " مصدرية في الجملة الثانية دون الأخرى . وهذا أيضا ليس في الكلام ما يدل على الفرق بينهما . وإذا جعلت في الجمل كلها مصدرية كان أقرب إلى الصواب مع أن هذا المعنى الذي تدل عليه " ما " المصدرية حاصل بقوله " ما " . فإنه لم يقل " ولا أنتم عابدون من أعبد " بل قال {
ما أعبد } .
[ ص: 550 ] ولفظ " ما " يدل على الصفة بخلاف " من " . فإنه يدل على العين كقوله : {
فانكحوا ما طاب لكم من النساء } أي الطيب {
والسماء وما بناها } أي وبانيها . ونظيره قوله : {
إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك } ولم يقل " من تعبدون من بعدي " .
وهذا نظير [ قوله ] {
ولا أنتم عابدون ما أعبد } سواء . فالمعنى : لا أعبد معبودكم ولا أنتم عابدون معبودي .
فقوله : {
ولا أنتم عابدون ما أعبد } يتناول شركهم فإنه ليس بعبادة لله فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه . فإذا أشركوا به لم يكونوا عابدين له وإن دعوه وصلوا له .
وأيضا فما عبدوا ما يعبده وهو الموصوف بأنه معبود له على جهة الاختصاص . بل هذا يتناول عبادته وحده ويتناول الرب الذي أخبر به بما له من الأسماء والصفات . فمن كذب به في بعض ما أخبر به عنه فما عبد ما يعبده من كل وجه .
وأيضا فالشرائع قد تتنوع في العبادات فيكون المعبود واحدا وإن لم تكن العبادة مثل العبادة . وهؤلاء لا يتبرأ منهم . فكل من عبد الله .
[ ص: 551 ] مخلصا له الدين فهو مسلم في كل وقت ولكن عبادته لا تكون إلا بما شرعه . فلو قال : لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي فقد يظن أنه تدخل فيه البراءة من كل عبادة تخالف صورتها صورة عبادته . وإنما البراءة من المعبود وعبادته .
فصل إذا تبين هذا فنقول : القرآن تنزيل من حكيم حميد وهو كتاب أحكمت آياته ثم فصلت .
ولو أن رجلا من بني
آدم له علم أو حكمة أو خطبة أو قصيدة أو مصنف فهذب ألفاظ ذلك وأتى فيه بمثل هذا التغاير لعلم أنه قصد في ذلك حكمة وأنه لم يخالف بين الألفاظ مع اتحاد المعنى سدى . فكيف بكلام رب العالمين وأحكم الحاكمين لا سيما وقد قال فيه {
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } .
فنقول : الفعل المضارع هو في اللغة يتناول الزمن الدائم سوى الماضي فيعم الحاضر والمستقبل كما قال
سيبويه : وبنوه لما مضى من
[ ص: 552 ] الزمان ولما هو دائم لم ينقطع ولما لم يأت بمعنى الماضي والمضارع وفعل الأمر . فجعل المضارع لما هو من الزمان دائما لم ينقطع وقد يتناول الحاضر والمستقبل .
فقوله {
لا أعبد } يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل وقوله {
ما تعبدون } يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل كلاهما مضارع .
وقال في الجملة الثانية عن نفسه {
ولا أنا عابد ما عبدتم } . فلم يقل " لا أعبد " بل قال {
ولا أنا عابد } . ولم يقل " ما تعبدون " بل قال {
ما عبدتم } . فاللفظ في فعله وفعلهم مغاير للفظ في الجملة الأولى .
والنفي بهذه الجملة الثانية أعم من النفي بالأولى . فإنه قال {
ولا أنا عابد ما عبدتم } بصيغة الماضي . فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي لأن
المشركين يعبدون آلهة شتى . وليس معبودهم في كل وقت هو المعبود في الوقت الآخر كما أن كل طائفة لها معبود سوى معبود الطائفة الأخرى .
فقوله {
لا أعبد ما تعبدون } براءة من كل ما عبدوه في الأزمنة
[ ص: 553 ] الماضية كما تبرأ أولا مما عبدوه في الحال والاستقبال . فتضمنت الجملتان البراءة من كل ما يعبده المشركون والكافرون في كل زمان ماض وحاضر ومستقبل . وقوله أولا : {
لا أعبد ما تعبدون } لا يتناول هذا كله .
وقوله {
ولا أنا عابد } اسم فاعل قد عمل عمل الفعل ليس مضافا فهو يتناول الحال والاستقبال أيضا . لكنه جملة اسمية والنفي بما بعد الفعل فيه زيادة معنى كما تقول : ما أفعل هذا وما أنا بفاعله .
وقولك " ما هو بفاعل هذا أبدا " أبلغ من قولك " ما يفعله أبدا " . فإنه نفى عن الذات صدور هذا الفعل عنها بخلاف قولك " ما يفعل هذا " فإنه لا ينفي إمكانه وجوازه منه . ولا يدل على أنه لا يصلح له ولا ينبغي له ; بخلاف قوله " ما هو فاعلا وما هو بفاعل " كما في قوله {
فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } وقوله {
ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي } وقوله {
وما الله بغافل عما تعملون } {
وما أنت بهادي العمي } {
وما أنت بمسمع من في القبور } {
وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } .
ولا يقال : الجملة الاسمية ترك الثبوت ونفي ذلك لا يقتضي نفي
[ ص: 554 ] العارض . فإن هذه الجملة في معنى الفعلية نفي لكونها عملت عمل الفعل . لكنها دلت على اتصاف الذات بهذا فنفت عن الذات أن يعرض لها هذا الفعل تنزيها للذات ونفيا لقبولها لذلك . فالأول نفي الفعل في الماضي والمستقبل والثاني نفي قبوله في الماضي مع الحاضر والمستقبل .
فقوله {
ولا أنا عابد ما عبدتم } أي نفسي لا تقبل ولا يصلح لها أن تعبد ما عبدتموه قط ولو كنتم عبدتموه في الماضي فقط . فأي معبود عبدتموه في وقت فأنا لا أقبل أن أعبده في وقت من الأوقات .
ففي هذا من عموم عبادتهم في الماضي والمستقبل ومن قوة براءته وامتناعه وعدم قبوله لهذه العبادة في جميع الأزمان ما ليس في الجملة الأولى . تلك تضمنت نفي الفعل في الزمان غير الماضي وهذه تضمنت نفي إمكانه وقبوله لما كان معبودا لهم ولو في بعض الزمان الماضي فقط . والتقدير : ما عبدتموه ولو في بعض الأزمان الماضية فأنا لا يمكنني ولا يسوغ لي أن أعبده أبدا .
ولكن لم ينف إلا ما يكون منه في الحاضر والمستقبل لأن المقصود براءته هو في الحال والاستقبال . وهذه السورة يؤمر بها كل مسلم وإن كان قد أشرك بالله قبل قراءتها .
[ ص: 555 ] فهو يتبرأ في الحاضر والمستقبل مما يعبده
المشركون في أي زمان كان وينفي جواز عبادته لمعبودهم ويبين أن مثل هذا لا يكون ولا يصلح ولا يسوغ . فهو ينفي جوازه شرعا ووقوعا . فإن مثل هذا الكلام لا يقال إلا فيما يستقبح من الأفعال كمن دعي إلى ظلم أو فاحشة فقال : " أنا أفعل هذا ؟ ما أنا بفاعل هذا أبدا " . فهو أبلغ من قوله " لا أفعله أبدا " . وهذا كقوله {
وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض } .
فهو يتضمن نفي الفعل بغضا فيه وكراهة له بخلاف قوله " لا أفعل " . فقد يتركه الإنسان وهو يحبه لغرض آخر . فإذا قال " ما أنا عابد ما عبدتم " دل على البغض والكراهة والمقت لمعبودهم ولعبادتهم إياه . وهذه هي البراءة .
ولهذا تستعمل في ضد الولاية فيقال : تول فلانا وتبرأ من فلان . كما قال تعالى {
إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله } الآية .
وأما قوله عن الكفار : {
ولا أنتم عابدون ما أعبد } فهو خطاب لجنس الكفار وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا . فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك . فإنهم حينئذ مؤمنون لا كافرون .
[ ص: 556 ] وإن كانوا منافقين فهم كافرون في الباطن فيتناولهم الخطاب .
وهذا كما يقال : قل يا أيها المحاربون والمخاصمون والمقاتلون والمعادون . فهو خطاب لهم ما داموا متصفين بهذه الصفة .
وما دام الكافر كافرا فإنه لا يعبد الله وإنما يعبد الشيطان ; سواء كان متظاهرا أو غير متظاهر به
كاليهود .
فإن
اليهود لا يعبدون الله وإنما يعبدون الشيطان لأن عبادة الله إنما تكون بما شرع وأمر . وهم وإن زعموا أنهم يعبدونه فتلك الأعمال المبدلة والمنهي عنها هو يكرهها ويبغضها وينهى عنها فليست عبادة .
فكل كافر
بمحمد لا يعبد ما يعبده
محمد ما دام كافرا . والفعل المضارع يتناول ما هو دائم لا ينقطع . فهو ما دام كافرا لا يعبد معبود
محمد صلى الله عليه وسلم لا في الحاضر ولا في المستقبل .
ولم يقل عنهم " ولا تعبدون ما أعبد " بل ذكر الجملة الاسمية ليبين أن نفس نفوسكم الخبيثة الكافرة بريئة من عبادة إله
محمد لا يمكن أن تعبده ما دامت كافرة . إذ لا تكون عابدته إلا بأن تعبده
[ ص: 557 ] وحده بما أمر به على لسان
محمد . ومن كان كافرا
بمحمد لا يكون عمله عبادة لله قط .
وتبرئتهم من عبادة الله جاءت بلفظ واحد بجملة اسمية تقتضي براءة ذواتهم من عبادة الله لم تقتصر على نفي الفعل .
ولم يحتج أن يقول فيهم " ولا أنتم عابدون ما عبدت " كما قال في نفسه {
ولا أنا عابد ما عبدتم } لوجهين .
أحدهما : أن كل مؤمن فهو مأمور بقراءة هذه السورة ومنهم من كان معبوده غير الله . فلو قال " ولا أنتم عابدون ما عبدت " لقالوا : بل نحن نعبد ما كنت تعبد لما كنت مشركا بخلاف ما إذا قال " ولا أنتم عابدون ما أعبده في هذا الوقت " . ولم يقل " ما أنا عابد له " إذ نفسه قد لا تكون عابدة له مطلقا . وقد يجوز أن يعبد الواحد من الناس غير الله في المستقبل فلا يكون من لم يعبد ما يعبده في المستقبل مذموما بخلاف المؤمن الذي يخاطب بهذه السورة غيره فإنه حين يقولها ما يعبد إلا الله . فهو يقول للكفار " ولا أنتم عابدون ما أعبده الآن " . وذكر النفي عن الكفار في الجملتين لتقارب كل جملة جملة . فلما قال {
لا أعبد ما تعبدون } فنفى الفعل قال {
ولا أنتم عابدون ما أعبد } .
[ ص: 558 ] ثم لما زاد النفي بنفي جواز ذلك وبراءة النفس منه ذكر ما يدل على كراهته له وقبحه ونفى أن يعبد شيئا مما عبدوه ولو في بعض الزمان قال {
ولا أنتم عابدون ما أعبد } بل أنتم بريئون من عبادة ما أعبده . فليس لبراءتي وكمال براءتي وبعدي من معبودكم وكمال قربي إلى الله في عبادتي له وحده لا شريك له يكون لكم نصيب من هذه العبادة . بل أنتم أيضا في هذه الحال لا تعبدون ما أعبد لا في الحال الأولى ولا في الثانية .
ولو اقتصر في تبريهم من عبادة الله على الجملة الأولى لم يكن فيها تبرئة لهم في هذه الحال الثانية . فبرأهم من معبوده حين البراءة الأولى الخاصة وحين البراءة الثانية العامة القاطعة .
وهم لم يختلف حالهم في الحالين بل هم فيهما لا يعبدون ما يعبد . فلم يكن في تغيير العبارة فائدة وإنما غيرت العبارة في حقه وحق المؤمنين لتغيير المعنيين .
والإنسان يقوى يقينه وإخلاصه وتوحيده وبراءته من الشرك وأهله وبغضه لما يعبدون ولعبادتهم فرفع درجته في ذلك . وهو في ذلك يقول للكفار : " لا تعبدون ما أعبد " في هذه الحال سواء كانوا هم قد زاد كفرهم وبغضهم له أو لم يزد .
[ ص: 559 ] فالمقصود بالسورة أن المؤمن يتبرأ منهم ويخبرهم أنهم برآء منه .
وتبريه منهم إنشاء ينشئه كما ينشئ المتكلم بالشهادتين . وهذا يزيد وينقص . ويقوى ويضعف .
وأما هم فهو يخبر ببراءتهم منه في هذه الحال لا ينشئ شيئا لم يكن فيهم . فخطاب المؤمن عن حالهم خبر عن حالهم والخبر مطابق للمخبر عنه فلم يتغير لفظ خبره عنهم إذا كانوا في كل وقت من أوقات عبادته لله لا يعبدون ما يعبد . فهذا اللفظ الخبري مطابق لحالهم في جميع الأوقات زادوا أو نقصوا .
ولا يجوز للمؤمن أن ينشئ زيادة في كفرهم فإن ذلك محرم . بل هو مأمور بدعائهم إلى الإيمان . وليس له أن ينقصهم في خبره عما هم متصفون به . فلم يكن في الإخبار عن حالهم زيادة فيما هم عليه ولا نقص . فلم يغير لفظ الخبر في الحالين بلفظ واحد . وأما المؤمن نفسه فهو مأمور بأن ينشئ قوة الإخلاص لله وحده وعبادته وحده والبراءة من كل معبود سواه وعبادته وبراءته منه ومن عابديه . وقوله : {
لا أعبد ما تعبدون } وإن كان لفظها خبرا ففيها معنى الإنشاء كسائر ألفاظ الإنشاءات كقوله " أشهد أن لا إله إلا الله " وقوله {
إنني براء مما تعبدون } {
إلا الذي فطرني } وقوله {
إني بريء مما تشركون } فكل هذه الأقوال فيها معنى الإنشاء لها ينشئه المؤمن في
[ ص: 560 ] نفسه من زيادة البراءة من الشرك وهي المقشقشة التي تقشقش من الشرك كما يقشقش المريض من المرض . فإن الشرك والكفر أعظم أمراض القلوب . فأمر المؤمن بقول يوجب في قلبه من البراءة من الشرك ما لم يكن في قلبه قبل ذلك . وكلما قاله ازداد براءة من الشرك وقلبه شفاء من المرض وإن كان الكفرة المخاطبون لا يزدادون بالإخبار عنهم إلا كفرا . فالجمل الخبرية تطابق المخبر عنه والإنشاء يوجب إحداث ما لم يكن . فقيل {
قل يا أيها الكافرون } {
لا أعبد ما تعبدون } أي أنا ممتنع من هذا تارك له ثم قال {
ولا أنا عابد ما عبدتم } أي أنا بريء من هذا متنزه عنه ; مزك لنفسي منه فإن الشرك أعظم ما تنجس به النفس وأعظم تزكية النفس وتطهيرها تزكيتها منه وتطهيرها منه . فما أنا عابد قط ما عبدتم في وقت من الأوقات .
وأنتم مع ذلك ما أنتم عابدون ما أعبد بل أنتم بريئون مما أعبد . وأنا بريء مما تعبدون مأمور بالبراءة منه وطالب زيادة البراءة منه ومجتهد في ذلك .
وأنا أخبر عنكم بأنكم بريئون مما أعبد إما لكونكم تأمرون بذلك وإما لكونكم تعبدونه فلا أخبر به فإنه كذب . وإما لكونكم تجتهدون في البراءة وتبالغون فيها فبها تختلف فيه أحوالكم .
[ ص: 561 ] وأنا لا يسوغ لي أن أذكر ما يزيل براءتكم ولا أكذب عليكم فإنكم تنقصون منها إذا تبرأت بل التبري منها داع وباعث لمن له عقل أن ينظر في سبب هذه البراءة لا سيما في حق الرسول الذي خوطب أولا . بقوله {
قل } .
فلينظر العاقل في سبب براءتي من الشرك وما أنتم عليه واختياري به عداوتكم والصبر على أذاكم واحتمالي هذه المكاره العظيمة . بعد ما كنتم تعظموني غاية التعظيم وتصفوني بالأمانة وتسموني " الأمين " وتفضلوني على غيري ونسبي فيكم أفضل نسب وتعرفون ما جعل الله في من العقل والمعرفة ومكارم الأخلاق وحسن المقاصد وطلب العدل والإحسان وأني لا أختار لأحد منكم سوءا ولا أريد أن أصيب أحدا بشر . فاختياري للبراءة مما تعبدون وإظهاري لسبهم وشتمهم . أهو سدى ليس له موجب أوجبه ؟ فانظروا في ذلك . ففي السورة دعاء وبعث للكفار إلى طلب الحق ومعرفته مع ما فيها من كمال البراءة منهم .
ومعانيها كثيرة شريفة يطول وصفها .