صفحة جزء
وهل يستحب التجديد لكل صلاة من الخمس ؟ فيه نزاع . وفيه عن أحمد رحمه الله روايتان .

وكذلك أيضا لما قدم مزدلفة : { صلى بهم المغرب والعشاء جمعا } من غير تجديد وضوء للعشاء . وهو في الموضعين قد قام هو وهم إلى صلاة بعد صلاة . وأقام لكل صلاة إقامة . وكذلك سائر أحاديث الجمع الثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر وابن عباس وأنس رضي الله عنهم . كلها تقتضي : أنه هو صلى الله عليه وسلم - والمسلمون خلفه - صلوا الثانية من المجموعتين بطهارة الأولى لم يحدثوا لها وضوءا .

[ ص: 372 ] وكذلك هو صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عباس وعائشة وغيرهم { أنه كان يتوضأ لصلاة الليل . فيصلي به الفجر } مع أنه كان ينام حتى يغط . ويقول { تنام عيناي ولا ينام قلبي } فهذا أمر من أصح ما يكون أنه : كان ينام ثم يصلي بذلك الوضوء الذي توضأ للنافلة يصلي به الفريضة . فكيف يقال : إنه كان يتوضأ لكل صلاة ؟ .

وقد ثبت عنه في الصحيح { أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر . ثم قدم عليه وفد عبد القيس . فاشتغل بهم عن الركعتين بعد الظهر حتى صلى العصر ولم يحدث وضوءا } .

وكان يصلي تارة الفريضة ثم النافلة . وتارة النافلة ثم الفريضة وتارة فريضة ثم فريضة . كل ذلك بوضوء واحد .

وكذلك المسلمون صلوا خلفه في رمضان بالليل بوضوء واحد مرات متعددة .

وكان المسلمون على عهده يتوضئون ثم يصلون ما لم يحدثوا كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة . ولم ينقل عنه - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف - : أنه أمرهم بالوضوء لكل صلاة .

[ ص: 373 ] فالقول باستحباب هذا يحتاج إلى دليل .

وأما القول بوجوبه : فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولإجماع الصحابة . والنقل عن علي رضي الله عنه بخلاف ذلك لا يثبت ; بل الثابت عنه خلافه . وعلي رضي الله عنه أجل من أن يخفى عليه مثل هذا والكذب على علي كثير مشهور : أكثر منه على غيره .

وأحمد بن حنبل رحمه الله - مع سعة علمه بآثار الصحابة والتابعين - أنكر أن يكون في هذا نزاع . وقال أحمد بن القاسم : سألت أحمد عمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد ؟ فقال : لا بأس بذلك إذا لم ينتقض وضوءه . ما ظننت أن أحدا أنكر هذا .

وروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة . قلت : وكيف كنتم تصنعون ؟ قال : يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث } وهذا هو في الصلوات الخمس المفرقة . ولهذا استحب أحمد ذلك في أحد القولين مع أنه كان أحيانا يصلي صلوات بوضوء واحد . كما في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال : { صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه . فقال له عمر : إني [ ص: 374 ] رأيتك صنعت شيئا لم تكن صنعته ؟ قال : عمدا صنعته يا عمر } .

والقرآن أيضا يدل على أنه لا يجب على المتوضئ أن يتوضأ مرة ثانية من وجوه : أحدها : أنه سبحانه قال : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } فقد أمر من جاء من الغائط ولم يجد الماء : أن يتيمم الصعيد الطيب . فدل على أن المجيء من الغائط يوجب التيمم . فلو كان الوضوء واجبا على من جاء من الغائط ومن لم يجئ فإن التيمم أولى بالوجوب . فإن كثيرا من الفقهاء يوجبون التيمم لكل صلاة . وعلى هذا فلا تأثير للمجيء من الغائط . فإنه إذا قام إلى الصلاة وجب الوضوء أو التيمم وإن لم يجئ من الغائط . ولو جاء من الغائط ولم يقم إلى الصلاة : لا يجب عليه وضوء ولا تيمم فيكون ذكر المجيء من الغائط عبثا على قول هؤلاء .

الوجه الثاني : أنه سبحانه خاطب المؤمنين . لأن الناس كلهم يكونون محدثين فإن البول والغائط أمر معتاد لهم وكل بني آدم محدث . والأصل فيهم : الحدث الأصغر . فإن أحدهم من حين كان طفلا قد اعتاد ذلك فلا يزال محدثا بخلاف الجنابة . فإنها إنما تعرض لهم [ ص: 375 ] عند البلوغ . والأصل فيهم : عدم الجنابة كما أن الأصل فيهم : عدم الطهارة الصغرى ; فلهذا قال : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ثم قال : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فأمرهم بالطهارة الصغرى مطلقا . لأن الأصل : أنهم كلهم محدثون قبل أن يتوضئوا . ثم قال : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وليس منهم جنب إلا من أجنب . فلهذا فرق سبحانه بين هذا وهذا .

الثالث : أن يقال : الآية اقتضت وجوب الوضوء إذا قام المؤمن إلى الصلاة . فدل على أن القيام هو السبب الموجب للوضوء . وأنه إذا قام إلى الصلاة صار واجبا حينئذ وجوبا مضيقا . فإذا كان العبد قد توضأ قبل ذلك : فقد أدى هذا الواجب قبل تضييقه كما قال : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } فدل على أن النداء يوجب السعي إلى الجمعة . وحينئذ يتضيق وقته فلا يجوز أن يشتغل عنه ببيع ولا غيره . فإذا سعى إليها قبل النداء : فقد سابق إلى الخيرات وسعى قبل تضييق الوقت . فهل يقول عاقل : إن عليه أن يرجع إلى بيته ليسعى عند النداء ؟ .

وكذلك الوضوء : إذا كان المسلم قد توضأ للظهر قبل الزوال أو للمغرب قبل غروب الشمس أو للفجر قبل طلوعه وهو إنما يقوم إلى الصلاة بعد الوقت . فمن قال : إن عليه أن يعيد الوضوء فهو [ ص: 376 ] بمنزلة من يقول : إن عليه أن يعيد السعي إذا أتى الجمعة قبل النداء .

والمسلمون على عهد نبيهم كانوا يتوضئون للفجر وغيرها قبل الوقت وكذلك المغرب . فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجلها ويصليها إذا توارت الشمس بالحجاب . وكثير من أصحابه كانت بيوتهم بعيدة من المسجد . فهؤلاء لو لم يتوضئوا قبل المغرب : لما أدركوا معه أول الصلاة بل قد تفوتهم جميعا لبعد المواضع . وهو نفسه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتوضأ بعد الغروب ولا من حضر عنده في المسجد ولا كان يأمر أحدا بتجديد الوضوء بعد المغرب . وهذا كله معلوم مقطوع به . وما أعرف في هذا خلافا ثابتا عن الصحابة : أن من توضأ قبل الوقت عليه أن يعيد الوضوء بعد دخول الوقت . ولا يستحب أيضا لمثل هذا تجديد وضوء .

وإنما تكلم الفقهاء فيمن صلى بالوضوء الأول : هل يستحب له التجديد ؟ وأما من لم يصل به : فلا يستحب له إعادة الوضوء ; بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما عليه المسلمون في حياته وبعده إلى هذا الوقت .

فقد تبين أن هذا قبل القيام قد أدى هذا الواجب قبل تضييقه كالساعي إلى الجمعة قبل النداء وكمن قضى الدين قبل حلوله ; ولهذا [ ص: 377 ] قال الشافعي وغيره : إن الصبي إذا صلى ثم بلغ لم يعد الصلاة ; لأنها تلك الصلاة بعينها سابق إليها قبل وقتها . وهو قول في مذهب أحمد وهذا القول أقوى من إيجاب الإعادة . ومن أوجبها قاسه على الحج وبينهما فرق . كما هو مبسوط في غير هذا الموضع .

وهذا الذي ذكرناه في الوضوء : هو بعينه في التيمم . ولهذا كان قول العلماء : إن التيمم كالوضوء فهو طهور المسلم ما لم يجد الماء . وإن تيمم قبل الوقت وتيمم للنافلة فيصلي به الفريضة وغيرها ; كما هو قول ابن عباس . وهو مذهب كثير من العلماء : أبي حنيفة وغيره وهو أحد القولين عن أحمد .

والقول الآخر - وهو التيمم لكل صلاة - هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد . وهو قول لم يثبت عن غيره من الصحابة كما قد بسط في موضعه .

فالآية محكمة ولله الحمد . وهي على ما دلت عليه من أن كل قائم إلى الصلاة فهو مأمور بالوضوء . فإن كان قد توضأ قبل ذلك فقد أحسن وفعل الواجب قبل تضييقه وسارع إلى الخيرات كمن سعى إلى الجمعة قبل النداء .

فقد تبين أن الآية ليس فيها إضمار ولا تخصيص ولا تدل على [ ص: 378 ] وجوب الوضوء مرتين . بل دلت على الحكم الثابت بالسنن المتواترة وهو الذي عليه جماعة المسلمين وهو وجوب الوضوء على المصلي . كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ فقال رجل من حضرموت : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : فساء أو ضراط } وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول } .

وهذا يوافق الآية الكريمة . فإنه يدل على أنه لا بد من الطهور ومن كان على وضوء فهو على طهور وإنما يحتاج إلى الوضوء من كان محدثا . كما قال : { لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ } وهو إذا توضأ ثم أحدث : فقد دلت الآية على أمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة وإذا كان قد توضأ فقد فعل ما أمر به . كقوله : لا تصل إلا بوضوء . أو لا تصل حتى تتوضأ ونحو ذلك . مما بين أنه مأمور بالوضوء لجنس الصلاة الشامل لأنواعها وأعيانها . ليس مأمورا لكل نوع أو عين بوضوء غير وضوء الآخر . ولا في اللفظ ما يدل على ذلك .

لكن هذا الوجه لا يدل على تقدم الوضوء على الجنس كمن أسلم [ ص: 379 ] فتوضأ قبل الزوال أو الغروب أو كمن أحدث فتوضأ قبل دخول الوقت . بخلاف الوجه الذي قبله . فإنه يتناول هذا كله .

التالي السابق


الخدمات العلمية