[ ص: 458 ] ومن المتأخرين من سلك في بعض هذه الأدعية والأذكار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها ويعملها بألفاظ متنوعة - ورويت بألفاظ متنوعة - طريقة محدثة بأن جمع بين تلك الألفاظ واستحب ذلك ورأى ذلك أفضل ما يقال فيها .
وطرد هذه الطريقة أن يذكر التشهد بجميع هذه الألفاظ المأثورة وأن يقال : الاستفتاح بجميع الألفاظ المأثورة وهذا مع أنه خلاف عمل المسلمين لم يستحبه أحد من أئمتهم بل عملوا بخلافه فهو بدعة في الشرع فاسد في العقل .
[ ص: 459 ] أما الأول : فلأن تنوع ألفاظ الذكر والدعاء كتنوع ألفاظ القرآن مثل تعلمون ويعلمون وباعدوا و بعدوا وأرجلكم وأرجلكم ومعلوم أن المسلمين متفقون على أنه لا يستحب للقارئ في الصلاة والقارئ عبادة وتدبرا خارج الصلاة : أن يجمع بين هذه الحروف إنما يفعل الجمع بعض القراء بعض الأوقات ليمتحن بحفظه للحروف وتمييزه للقراءات وقد تكلم الناس في هذا .
وأما الجمع في كل القراءة المشروعة المأمور بها فغير مشروع باتفاق المسلمين بل يخير بين تلك الحروف وإذا قرأ بهذه تارة وبهذه تارة كان حسنا كذلك الأذكار إذا قال تارة " ظلما كثيرا " وتارة " ظلما كبيرا " كان حسنا كذلك إذا قال تارة " على آل محمد " وتارة " على أزواجه وذريته " كان حسنا .
كما أنه في التشهد إذا تشهد تارة بتشهد ابن مسعود وتارة بتشهد ابن عباس وتارة بتشهد عمر كان حسنا وفي الاستفتاح إذا استفتح تارة باستفتاح عمر وتارة باستفتاح علي وتارة باستفتاح nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ونحو ذلك كان حسنا . وقد احتج غير واحد من العلماء كالشافعي وغيره على جواز الأنواع المأثورة في التشهدات ونحوها بالحديث الذي في الصحاح عن [ ص: 460 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=70055أنزل القرآن على سبعة أحرف - كلها شاف كاف فاقرءوا بما تيسر } قالوا : فإذا كان القرآن قد رخص في قراءته سبعة أحرف فغيره من الذكر والدعاء أولى أن يرخص في أن يقال على عدة أحرف . ومعلوم أن المشروع في ذلك أن يقرأ أحدها أو هذا تارة وهذا تارة لا الجمع بينهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع بين هذه الألفاظ في آن واحد ; بل قال هذا تارة وهذا تارة إذا كان قد قالهما .
وأما إذا اختلفت الرواية في لفظ فقد يمكن أنه قالهما أو يمكن أنه رخص فيهما ويمكن أن أحد الراويين حفظ اللفظ دون الآخر وهذا يجيء في مثل قوله " كبيرا " " كثيرا " . وأما مثل قوله : " وعلى آل محمد " وقوله في الأخرى " وعلى أزواجه وذريته " فلا ريب أنه قال هذا تارة وهذا تارة : ولهذا احتج من احتج بذلك على تفسير الآل وللناس في ذلك قولان مشهوران .
( أحدهما أنهم أهل بيته الذين حرموا الصدقة وهذا هو المنصوص عن الشافعي وأحمد وعلى هذا ففي تحريم الصدقة على أزواجه وكونهم من أهل بيته روايتان عن أحمد : إحداهما : لسن من أهل بيته وهو قول زيد بن أرقم الذي رواه مسلم في صحيحه عنه .
[ ص: 461 ] ( والثانية : هن من أهل بيته لهذا الحديث فإنه قال : " وعلى أزواجه وذريته " وقوله : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } وقوله في قصة إبراهيم : { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } وقد دخلت سارة ولأنه استثنى nindex.php?page=showalam&ids=62امرأة لوط من آله فدل على دخولها في الآل وحديث الكساء يدل على أن عليا nindex.php?page=showalam&ids=25وفاطمة وحسنا وحسينا أحق بالدخول في أهل البيت من غيرهم كما أن قوله في المسجد المؤسس على التقوى : " هو مسجدي هذا " يدل على أنه أحق بذلك وأن مسجد قباء أيضا مؤسس على التقوى ; كما دل عليه نزول الآية وسياقها وكما أن أزواجه داخلات في آله وأهل بيته كما دل عليه نزول الآية وسياقها وقد تبين أن دخول أزواجه في آل بيته أصح وإن كان مواليهن لا يدخلون في موالي آله بدليل الصدقة على بريرة مولاة عائشة ونهيه عنها أبا رافع مولى العباس وعلى هذا القول فآل المطلب هل هم من آله ومن أهل بيته الذين تحرم عليهم الصدقة ؟ على روايتين عن أحمد .
( إحداهما : أنهم منهم وهو قول الشافعي .
( والثانية : ليسوا منهم وهو مذهب أبي حنيفة ومالك .
( والقول الثاني أن آل محمد هم أمته أو الأتقياء من أمته وهذا [ ص: 462 ] روي عن مالك إن صح وقاله طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم . وقد يحتجون على ذلك بما روى الخلال وتمام هذه أنه سئل عن آل محمد فقال : " كل مؤمن تقي " وهذا الحديث موضوع لا أصل له .
والمقصود هنا : أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال أحيانا . " وعلى آل محمد " وكان يقول أحيانا : " وعلى أزواجه وذريته " فمن قال أحدهما أو هذا تارة وهذا تارة فقد أحسن . وأما من جمع بينهما فقد خالف السنة .
ثم إنه فاسد من جهة العقل أيضا فإن أحد اللفظين بدل عن الآخر فلا يجمع بين البدل والمبدل ومن تدبر ما يقول وفهمه علم ذلك .
وأيضا فإن لفظ الأهل يضيفونه إلى الجماد وإلى غير المعظم كما يقولون : أهل البيت وأهل المدينة وأهل الفقير وأهل المسكين وأما الآل فإنما يضاف إلى معظم من شأنه أن يئول غيره أو يسوسه فيكون مآله إليه ومنه الإيالة : وهي السياسة فآل الشخص هم من يئوله ويئول إليه ويرجع إليه ونفسه هي أول وأولى من يسوسه ويئول إليه ; فلهذا كان لفظ آل فلان متناولا له ولا يقال هو مختص به بل يتناوله ويتناول من يئوله فلهذا جاء في أكثر الألفاظ " كما صليت على آل إبراهيم وكما باركت على آل إبراهيم " وجاء في بعضها " إبراهيم " نفسه لأنه هو الأصل في الصلاة والزكاة وسائر أهل بيته إنما يحصل لهم ذلك تبعا . وجاء في بعضها ذكر هذا وهذا تنبيها على هذين .
فإن قيل : فلم قيل : " صل على محمد وعلى آل محمد وبارك [ ص: 464 ] على محمد وآل محمد فذكر هنا محمدا وآل محمد وذكر هناك لفظ " آل إبراهيم أو إبراهيم " .
( قيل : لأن الصلاة على محمد وعلى آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء وأما الصلاة على إبراهيم ففي مقام الخبر والقصة ; إذ قوله : على محمد وعلى آل محمد " جملة طلبية وقوله " صليت على آل إبراهيم " جملة خبرية والجملة الطلبية إذا بسطت كان مناسبا ; لأن المطلوب يزيد بزيادة الطلب وينقص بنقصانه .
وأما الخبر فهو خبر عن أمر قد وقع وانقضى لا يحتمل الزيادة والنقصان فلم يكن في زيادة اللفظ زيادة المعنى فكان الإيجاز فيه والاختصار أكمل وأتم وأحسن ; ولهذا جاء بلفظ آل إبراهيم تارة وبلفظ إبراهيم أخرى ; لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر وهو الصلاة التي وقعت ومضت إذ قد علم أن الصلاة على إبراهيم التي وقعت هي الصلاة على آل إبراهيم والصلاة على آل إبراهيم صلاة على إبراهيم فكان المراد باللفظين واحدا مع الإيجاز والاختصار .
وأما في الطلب فلو قيل : " صل الله على محمد " لم يكن في هذا ما يدل على الصلاة على آل محمد إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ ليس خبرا عن أمر قد وقع واستقر ولو قيل : صل على [ ص: 465 ] آل محمد لكان إنما يصلي عليه في العموم . فقيل : على محمد وعلى آل محمد فإنه يحصل بذلك الصلاة عليه بخصومه وبالصلاة على آله .
ثم إن قيل : إنه داخل في آله مع الاقتران كما هو داخل مع الإطلاق فقد صلى عليه مرتين خصوصا وعموما وهذا ينشأ على قول من يقول : العام المعطوف على الخاص يتناول الخاص .
ولو ( قيل : إنه لم يدخل لم يضر ; فإن الصلاة عليه خصوصا تغني . وأيضا ففي ذلك بيان أن الصلاة على سائر الآل إنما طلبت تبعا له وأنه هو الأصل الذي بسببه طلبت الصلاة على آله وهذا يتم بجواب السؤال المشهور وهو أن قوله : " كما صليت على إبراهيم " يشعر بفضيلة إبراهيم لأن المشبه دون المشبه به وقد أجاب الناس عن ذلك بأجوبة ضعيفة .
فقيل : التشبيه عائد إلى الصلاة على الأول فقط فقوله : " صل على محمد " كلام منقطع وقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=15005وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم } كلام مبتدأ وهذا نقله العمراني عن الشافعي وهذا باطل عن الشافعي قطعا لا يليق بعلمه وفصاحته ; فإن هذا كلام ركيك في غاية البعد وفيه من جهة العربية بحوث لا تليق بهذا الموضع .
[ ص: 466 ] الثاني : قول من منع كون المشبه به أعلى من المشبه وقال : يجوز أن يكونا متماثلين قال صاحب هذا القول : والنبي صلى الله عليه وسلم يفضل على إبراهيم من وجوه غير الصلاة وهما متماثلان في الصلاة وهذا أيضا ضعيف ; فإن الصلاة من الله من أعلى المراتب أو أعلاها ومحمد أفضل الخلق فيها فكيف وقد أمر الله بها بعد أن أخبر أنه وملائكته يصلون عليه . وأيضا فالله وملائكته يصلون على معلم الخير وهو أفضل معلمي الخير والأدلة كثيرة لا يتسع لها هذا الجواب .
الثالث : قول من قال : آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس مثلهم في آل محمد فإذا طلب من الصلاة مثلما صلى على هؤلاء حصل لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم فإنهم دون الأنبياء وبقيت الزيادة لمحمد صلى الله عليه وسلم فحصل له بذلك من الصلاة عليه مزية ليست لإبراهيم ولا لغيره وهذا الجواب أحسن مما تقدم .
وأحسن منه أن يقال : محمد هو من آل إبراهيم كما روى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } قال ابن عباس : محمد من آل إبراهيم . وهذا بين ; فإنه إذا دخل غيره من الأنبياء في آل إبراهيم فهو أحق بالدخول فيهم فيكون قولنا : كما صليت على آل [ ص: 467 ] إبراهيم متناولا للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية آل إبراهيم . وقد قال تعالى : { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } ثم أمرنا أن نصلي على محمد وعلى آل محمد خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموما ثم لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم والباقي له فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم .
ومعلوم أن هذا أمر عظيم يحصل له به أعظم مما لإبراهيم وغيره فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به وله نصيب وافر من المشبه وله أكثر المطلوب صار له من المشبه وحده أكثر مما لإبراهيم وغيره وإن كان جملة المطلوب مثل المشبه وانضاف إلى ذلك ما له من المشبه به فظهر بهذا من فضله على كل من النبيين ما هو اللائق به صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وجزاه عنا أفضل ما جزى رسولا عن أمته . اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد .