وسئل رحمه الله تعالى عن قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان في العشاء الآخرة ؟ أو الصبح ؟ وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل عليه عند الصحابة ؟ .
فأجاب : أما القنوت في صلاة الصبح . فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقنت في النوازل . قنت مرة شهرا يدعو على قوم من الكفار قتلوا طائفة من أصحابه ثم تركه وقنت مرة أخرى يدعو لأقوام من أصحابه كانوا مأسورين عند أقوام يمنعونهم من الهجرة إليه .
[ ص: 99 ] وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده كانوا يقنتون نحو هذا القنوت فما كان يداوم عليه وما كان يدعه بالكلية وللعلماء فيه ثلاثة أقوال : قيل : إن المداومة عليه سنة .
وقيل : القنوت منسوخ .
وأنه كله بدعة . والقول الثالث : وهو الصحيح أنه يسن عند الحاجة إليه كما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون . وأما القنوت في الوتر فهو جائز وليس بلازم فمن أصحابه من لم يقنت ومنهم من قنت في النصف الأخير من رمضان ومنهم من قنت السنة كلها .
والعلماء منهم من يستحب الأول كمالك ومنهم من يستحب الثاني كالشافعي وأحمد في رواية ومنهم من يستحب الثالث كأبي حنيفة والإمام أحمد في رواية والجميع جائز .
فمن فعل شيئا من ذلك فلا لوم عليه والله أعلم .
[ ص: 100 ] وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل وأما القنوت : فالناس فيه طرفان ووسط : منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع ومنهم من لا يراه إلا بعده . وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما . وإن اختاروا القنوت بعده ; لأنه أكثر وأقيس فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد : سمع الله لمن حمده فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بنيت فاتحة الكتاب على ذلك : أولها ثناء وآخرها دعاء .
وأيضا فالناس في شرعه في الفجر على ثلاثة أقوال : بعد اتفاقهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر .
منهم من قال : إنه منسوخ فإنه قنت ثم ترك . كما جاءت به الأحاديث الصحيحة .
[ ص: 103 ] وكذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أبطأ عليه خبر جيوش المسلمين قنت وكذلك علي رضي الله عنه قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم .
قالوا : وليس الترك نسخا فإن الناسخ لا بد أن ينافي المنسوخ وإذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمرا لحاجة ثم تركه لزوالها لم يكن ذلك نسخا بل لو تركه تركا مطلقا لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك لا على النهي عن الفعل .
قالوا : ونعلم مطلقا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا فإن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائما بعد الركوع ولا أنه قنت دائما يدعو قبله وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب فإذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن كما يعلم : " أن حي على خير العمل " لم يكن من الأذان الراتب وإنما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضا للناس على الصلاة فهذا القول أوسط الأقوال وهو أن القنوت مشروع غير منسوخ ; لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة .
وهذا أصل آخر في الواجبات والمستحبات كالأصل الذي تقدم في ما يسقط بالعذر فإن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة [ ص: 104 ] يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجبا ولا مستحبا كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات .
وكذلك أيضا قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة ما لا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه .
وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا أو تجعل الراتب لا يتغير بحال ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه هذه المشكلات كثيرا .