الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وسئل رحمه الله تعالى عن قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان في العشاء الآخرة ؟ أو الصبح ؟ وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل عليه عند الصحابة ؟ .

                التالي السابق


                فأجاب : أما القنوت في صلاة الصبح . فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقنت في النوازل . قنت مرة شهرا يدعو على قوم من الكفار قتلوا طائفة من أصحابه ثم تركه وقنت مرة أخرى يدعو لأقوام من أصحابه كانوا مأسورين عند أقوام يمنعونهم من الهجرة إليه .

                [ ص: 99 ] وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده كانوا يقنتون نحو هذا القنوت فما كان يداوم عليه وما كان يدعه بالكلية وللعلماء فيه ثلاثة أقوال : قيل : إن المداومة عليه سنة .

                وقيل : القنوت منسوخ .

                وأنه كله بدعة . والقول الثالث : وهو الصحيح أنه يسن عند الحاجة إليه كما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون . وأما القنوت في الوتر فهو جائز وليس بلازم فمن أصحابه من لم يقنت ومنهم من قنت في النصف الأخير من رمضان ومنهم من قنت السنة كلها .

                والعلماء منهم من يستحب الأول كمالك ومنهم من يستحب الثاني كالشافعي وأحمد في رواية ومنهم من يستحب الثالث كأبي حنيفة والإمام أحمد في رواية والجميع جائز .

                فمن فعل شيئا من ذلك فلا لوم عليه والله أعلم .

                [ ص: 100 ] وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل وأما القنوت : فالناس فيه طرفان ووسط : منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع ومنهم من لا يراه إلا بعده . وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما . وإن اختاروا القنوت بعده ; لأنه أكثر وأقيس فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد : سمع الله لمن حمده فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بنيت فاتحة الكتاب على ذلك : أولها ثناء وآخرها دعاء .

                وأيضا فالناس في شرعه في الفجر على ثلاثة أقوال : بعد اتفاقهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر .

                منهم من قال : إنه منسوخ فإنه قنت ثم ترك . كما جاءت به الأحاديث الصحيحة .

                [ ص: 101 ] ومن قال : المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار فلم تبلغه ألفاظ الحديث أو بلغته فلم يتأملها فإن في الصحيحين عن عاصم الأحول قال : { سألت أنس بن مالك عن القنوت : هل كان قبل الركوع أو بعده ؟ فقال : قبل الركوع قال : فإن فلانا أخبرني أنك قلت بعد الركوع قال : كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الركوع أراه بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله عهد وقنت صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم } وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس عن أنس أنه قال : { ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا } " جاء لفظه مفسرا " أنه : ما زال يقنت قبل الركوع " . والمراد هنا بالقنوت طول القيام لا الدعاء . كذلك جاء مفسرا ويبينه ما جاء في الصحيحين عن { محمد بن سيرين قال : قلت لأنس : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح قال : نعم بعد الركوع يسيرا } " فأخبر أن قنوته كان يسيرا وكان بعد الركوع فلما كان لفظ القنوت هو إدامة الطاعة سمي كل تطويل في قيام أو ركوع أو سجود قنوتا . كما قال تعالى : { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما } ولهذا لما سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن القنوت الراتب قال : " ما سمعنا ولا رأينا " وهذا قول ومنهم من قال : بل القنوت سنة راتبة حيث قد ثبت عن النبي [ ص: 102 ] صلى الله عليه وسلم أنه قنت وروي عنه : { أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا } . وهذا قول الشافعي ثم من هؤلاء من استحبه في جميع الصلوات لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه في المغرب والعشاء الآخرة والظهر . لكن لم يرو أحد أنه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف . فاستحبوا أن يدعو فيه بقنوت الوتر الذي علمه . النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي وهو : { اللهم اهدني فيمن هديت } " إلى آخره .

                وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيره فقالوا : قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للنوازل التي نزلت به من العدو في قتل أصحابه أو حبسهم ونحو ذلك . فإنه قنت مستنصرا كما استسقى حين الجدب فاستنصاره عند الحاجة كاسترزاقه عند الحاجة إذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس . كما قال تعالى : { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم { وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم } " وكما قال في صفة الأبدال : { بهم ترزقون وبهم تنصرون } " وكما ذكر الله هذين النوعين في سورة الملك وبين أنهما بيده . سبحانه . في قوله : { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور } { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه } ثم ترك القنوت وجاء مفسرا أنه تركه لزوال ذلك السبب .

                [ ص: 103 ] وكذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أبطأ عليه خبر جيوش المسلمين قنت وكذلك علي رضي الله عنه قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم .

                قالوا : وليس الترك نسخا فإن الناسخ لا بد أن ينافي المنسوخ وإذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمرا لحاجة ثم تركه لزوالها لم يكن ذلك نسخا بل لو تركه تركا مطلقا لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك لا على النهي عن الفعل .

                قالوا : ونعلم مطلقا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا فإن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائما بعد الركوع ولا أنه قنت دائما يدعو قبله وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب فإذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن كما يعلم : " أن حي على خير العمل " لم يكن من الأذان الراتب وإنما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضا للناس على الصلاة فهذا القول أوسط الأقوال وهو أن القنوت مشروع غير منسوخ ; لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة .

                وهذا أصل آخر في الواجبات والمستحبات كالأصل الذي تقدم في ما يسقط بالعذر فإن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة [ ص: 104 ] يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجبا ولا مستحبا كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات .

                وكذلك أيضا قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة ما لا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه .

                وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا أو تجعل الراتب لا يتغير بحال ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه هذه المشكلات كثيرا .




                الخدمات العلمية