ومنهم من يقول : السنة أن يكون بعد الركوع جهرا . ويستحب . أن يقنت بدعاء الحسن بن علي الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته : { nindex.php?page=hadith&LINKID=14965اللهم اهدني فيمن هديت } إلى آخره . وإن كانوا قد يجوزون القنوت قبل وبعد . وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } ويقولون : الوسطى : هي الفجر والقنوت فيها . وكلتا المقدمتين ضعيفة : أما الأولى : فقد ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=68803أن الصلاة الوسطى هي العصر } وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة . ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم . وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة . فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم .
ومعلوم أن ذلك واجب في جميع أجزاء القيام ; ولأن قوله : { وقوموا لله قانتين } لا يختص بالصلاة الوسطى . سواء كانت الفجر أو العصر ; بل هو معطوف على قوله : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فيكون أمرا بالقنوت مع الأمر بالمحافظة والمحافظة تتناول الجميع فالقيام يتناول الجميع .
والقنوت قبل الركوع قد يراد به طول القيام قبل الركوع سواء كان هناك دعاء زائد أو لم يكن . فحينئذ فلا يكون اللفظ دالا على قنوت الدعاء وقد ذهب طائفة إلى أنه يستحب القنوت الدائم في الصلوات الخمس محتجين بأن النبي صلى الله عليه وسلم قنت فيها ولم يفرق بين الراتب والعارض وهذا قول شاذ .
والقول الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل به فيكون القنوت مسنونا عند النوازل وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فإن عمر رضي الله عنه لما حارب النصارى قنت عليهم القنوت [ ص: 109 ] المشهور : اللهم عذب كفرة أهل الكتاب . إلى آخره . وهو الذي جعله بعض الناس سنة في قنوت رمضان وليس هذا القنوت سنة راتبة لا في رمضان ولا غيره بل عمر قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة ودعا في قنوته دعاء يناسب تلك النازلة كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قنت أولا على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه دعا بدعاء . يناسب مقصوده . فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تدل على شيئين : أحدهما : أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه ليس بسنة دائمة في الصلاة .
الثاني : أن الدعاء فيه ليس دعاء راتبا بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولا وثانيا . وكما دعا عمر وعلي رضي الله عنهما لما حارب من حاربه في الفتنة فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده والذي يبين هذا أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت دائما ويدعو بدعاء راتب لكان المسلمون ينقلون هذا عن نبيهم فإن هذا من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وهم الذين نقلوا عنه في قنوته ما لم يداوم عليه وليس بسنة راتبة كدعائه على الذين قتلوا أصحابه ودعائه للمستضعفين من [ ص: 110 ] أصحابه ونقلوا قنوت عمر وعلي على من كانوا يحاربونهم .
فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقنت دائما في الفجر أو غيرها ويدعو بدعاء راتب ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لا في خبر صحيح ولا ضعيف بل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم أعلم الناس بسنته وأرغب الناس في اتباعها كابن عمر وغيره أنكروا حتى قال ابن عمر : " ما رأينا ولا سمعنا " وفي رواية " أرأيتكم قيامكم هذا : تدعون . ما رأينا ولا سمعنا " أفيقول مسلم : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت دائما وابن عمر يقول : ما رأينا ولا سمعنا . وكذلك غير ابن عمر من الصحابة عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة .
ومن تدبر هذه الأحاديث في هذا الباب علم علما يقينا قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقنت دائما في شيء من الصلوات كما يعلم علما [ يقينيا ] أنه لم يكن يداوم على القنوت في الظهر والعشاء والمغرب فإن من جعل القنوت في هذه الصلوات سنة راتبة يحتج بما هو من جنس حجة الجاعلين له في الفجر سنة راتبة . ولا ريب أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في هذه الصلوات ; لكن الصحابة بينوا الدعاء الذي كان يدعو به والسبب الذي قنت له وأنه ترك ذلك عند حصول المقصود نقلوا ذلك في [ ص: 111 ] قنوت الفجر وفي قنوت العشاء أيضا .
والذي يوضح ذلك : أن الذين جعلوا من سنة الصلاة أن يقنت دائما بقنوت الحسن بن علي أو بسورتي أبي ليس معهم إلا دعاء عارض والقنوت فيها إذا كان مشروعا : كان مشروعا للإمام والمأموم والمنفرد ; بل وأوضح من هذا أنه لو جعل جاعل قنوت الحسن أو سورتي أبي سنة راتبة في المغرب والعشاء لكان حاله شبيها بحال من جعل ذلك سنة راتبة في الفجر . إذ هؤلاء ليس معهم في الفجر إلا قنوت عارض بدعاء يناسب ذلك العارض ولم ينقل مسلم دعاء في قنوت غير هذا كما لم ينقل ذلك في المغرب والعشاء . وإنما وقعت الشبهة لبعض العلماء في الفجر ; لأن القنوت فيها كان أكثر وهي أطول . والقنوت يتبع الصلاة وبلغهم أنه داوم عليه فظنوا أن السنة المداومة عليه ثم لم يجدوا معهم سنة بدعائه . فسنوا هذه الأدعية المأثورة في الوتر . مع أنهم لا يرون ذلك سنة راتبة في الوتر .
ومن الناس من يكره التطوع ; لأنه رأى أن الجماعة إنما سنت في الخمس كما أن الأذان إنما سن في الخمس . ومعلوم أن الصواب هو ما جاءت به السنة فلا يكره أن يتطوع في جماعة . كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم . ولا يجعل ذلك سنة راتبة كمن يقيم للمسجد إماما راتبا يصلي بالناس بين العشاءين أو في جوف الليل كما يصلي بهم الصلوات الخمس كما ليس له أن يجعل للعيدين وغيرهما أذانا كأذان الخمس ; ولهذا أنكر الصحابة على من فعل هذا من ولاة الأمور إذ ذاك .
ويشبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان فإنه قد ثبت أن nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان ويوتر بثلاث . فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة ; لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر . واستحب آخرون : تسعة وثلاثين ركعة ; بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم .
والصواب أن ذلك جميعه حسن كما قد نص على ذلك nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد رضي الله عنه وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيها عددا وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره .
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القيام بالليل حتى إنه قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة { nindex.php?page=hadith&LINKID=69171أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات } . nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب لما قام بهم وهم جماعة واحدة لم يمكن أن يطيل بهم القيام فكثر الركعات ليكون ذلك عوضا عن طول القيام وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته فإنه كان يقوم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعا وثلاثين .
ومعلوم أن السجود في نفسه أفضل من القيام ولكن ذكر القيام أفضل وهو القراءة وتحقيق الأمر أن الأفضل في الصلاة أن تكون معتدلة . فإذا أطال القيام يطيل الركوع والسجود كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل كما رواه حذيفة وغيره . وهكذا [ ص: 115 ] كانت صلاته الفريضة وصلاة الكسوف وغيرهما : كانت صلاته معتدلة فإن فضل مفضل إطالة القيام والركوع والسجود مع تقليل الركعات وتخفيف القيام والركوع والسجود مع تكثير الركعات : فهذان متقاربان . وقد يكون هذا أفضل في حال كما أنه لما صلى الضحى يوم الفتح صلى ثماني ركعات يخففهن ولم يقتصر على ركعتين طويلتين . وكما فعل الصحابة في قيام رمضان لما شق على المأمومين إطالة القيام .
وقد تبين بما ذكرناه أن القنوت يكون عند النوازل وأن الدعاء في القنوت ليس شيئا معينا ولا يدعو بما خطر له بل يدعو من الدعاء المشروع بما يناسب سبب القنوت كما أنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناسب المقصود فكذلك إذا دعا في الاستنصار دعا بما يناسب المقصود كما لو دعا خارج الصلاة لذلك السبب ; فإنه كان يدعو بما يناسب المقصود فهذا هو الذي جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين .
ومن قال : إنه من أبعاض الصلاة التي يجبر بسجود السهو فإنه بنى ذلك على أنه سنة يسن المداومة عليه بمنزلة التشهد الأول ونحوه . وقد تبين أن الأمر ليس كذلك فليس بسنة راتبة ولا يسجد له لكن من اعتقد ذلك متأولا في ذلك له تأويله كسائر موارد الاجتهاد .
فإذا قنت لم يكن للمأموم أن يسابقه : فلا بد من متابعته ولهذا كان nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود قد أنكر على عثمان التربيع بمنى ثم إنه صلى خلفه أربعا . فقيل له : في ذلك فقال : الخلاف شر . وكذلك أنس بن مالك لما سأله رجل عن وقت الرمي فأخبره ثم قال : افعل كما يفعل إمامك والله أعلم .