[ ص: 157 ] باب الشروط في النكاح قال
شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن
محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما . فصل
الشروط الفاسدة في النكاح كثيرة : ك " نكاح الشغار " " والمحلل " " والمتعة " . ومثل أن يتزوجها على ألا مهر لها أو على مهر محرم ونحو ذلك من الشروط الفاسدة . وللعلماء فيها أقوال . " أحدها " أنه لا يصح النكاح . ثم هل يصح إذا إمضاء الشرط الفاسد بعد ذلك ؟ فيه نزاع . وهذا أحد القولين في مذهب
مالك وأحمد وهو اختيار طائفة من أئمة أصحابه :
كأبي بكر الخلال وأبي بكر عبد العزيز [ ص: 158 ] " والثاني " يصح النكاح ويبطل الشرط ; وهو مذهب
أبي حنيفة وأصحابه في الجميع ; وخرج ذلك طائفة من
أصحاب أحمد :
nindex.php?page=showalam&ids=11851كأبي الخطاب Multitarajem.php?tid=13371,13372وابن عقيل وغيرهما قولا في مذهبه ; حتى في النكاح الباطل ; فإن
أبا حنيفة وصاحبيه يقولون ببطلانه
وزفر يصحح العقد ويلغي الأصل وقد خرج كلاهما قولا في مذهب
أحمد . وهذا التخريج من نصه في قوله : إن جئتني بالمهر إلى وقت كذا ; وإلا فلا نكاح بيننا . فإنه حكي عنه فيه ثلاث روايات : رواية بصحتهما . ورواية بفسادهما . ورواية بصحة العقد دون الشرط . وكذلك فيما إذا تزوجها على أن ترد إليه المهر : فقد نص على صحة العقل وبطلان الشرط .
و " القول الثالث " في الشروط الفاسدة : أنه يبطل نكاح الشغار والمتعة ونكاح التحليل المشروط في العقد ويصح
النكاح مع المهر المحرم ومع نفي المهر . وهذا مذهب
الشافعي ; وهو الرواية الثانية عن
أحمد اختارها كثير من أصحابه :
كالحربي nindex.php?page=showalam&ids=14953والقاضي أبي يعلى وأتباعه .
وهؤلاء يفرقون بين ما صححوه من عقود النكاح مع الشرط الفاسد وما أبطلوه بأن الشرط إذا انتفى وقع النكاح ; وإلا كان باطلا : " كنكاح المتعة " وكذلك "
نكاح التحليل " إذا قدره بالفعل مثل أن يقول : زوجتكها إلى أن تحلها . وأما إذا قال : على أنك إذا أحللتها فلا نكاح بينكما ; أو على أنك تطلقها إذا أحللتها : فهذا فيه نزاع في مذهب
الشافعي .
وأبو يوسف يوافق
الشافعي على قوله ببطلانه .
[ ص: 159 ] وأما "
نكاح الشغار " فلهم في علة إبطاله أقوال : هل العلة التشريك في البضع ؟ أو تعليق أحد النكاحين على الآخر ؟ أو كون أحد العقدين سلفا من الآخر ؟ إلى غير ذلك مما ذكر بأقلامهم في غير هذا الموضع .
وأما " النكاح بالمهر الفاسد " و " شرط نفي المهر " فصححوه موافقة
لأبي حنيفة : بناء على أن النكاح يصح بدون تسمية المهر فيصح مع نفي المهر . وهؤلاء جعلوا نكاح المتعة أصلا لما يبطلونه من الأنكحة ونكاح المفوضة أصلا لما يصححونه ونكاح الشغار جعلوه نوعا آخر وهذا أصل قول
أبي حنيفة في الشروط الفاسدة في النكاح والفرق بينها وبين الشروط الفاسدة في البيع والإجارة ; فإنه قال : إنه لا يصح مع عدم تسمية العوض فلا يصح مع الجهل به ولا مع الشروط الفاسدة ; لأن ذلك يتضمن الجهل بالعوض ; لأنه يجب إسقاط الشرط الفاسد وإسقاط ما يقابله من الثمن فيكون باقي الثمن مجهولا . وقد احتج الأكثرون على هؤلاء بالنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن نكاح الشغار وعن نكاح التحليل كنهيه عن نكاح المتعة والنهي عن النكاح يقتضي فساده كنهيه عن النكاح في العدة والنكاح بلا ولي ولا شهود . وبأن
الصحابة أبطلوا هذه العقود ففرقوا بين الزوجين في نكاح الشغار وجعلوا نكاح التحليل سفاحا وتوعدوا المحلل بالرجم ومنعوا من غير نكاح الرغبة كما ذكرنا الآثار الكثيرة عنهم بذلك في " كتاب إبطال التحليل " فتبين بالنصوص وإجماع
الصحابة فساد هذه الأنكحة .
[ ص: 160 ] ولأن النكاح إذا قيل بصحته ولزومه : فإما أن يقال بذلك مع الشرط المحرم الفاسد وهذا خلاف النص والإجماع .
وإما أن يقال به مع إبطال الشرط فيكون ذلك إلزاما للعاقد بعقد لم يرض به ولا ألزمه الله به . ومعلوم أن موجب العقد : إما أن يلزم بإلزام الشارع ; أو إلزام العاقد . فالأول كالعقود التي ألزمه الشارع بها ; كما ألزم الشارع الكافر الحربي بالإسلام وكما ألزم من عليه يمين واجبة حنث فيها بواحدة بالإعتاق والصوم وكما ألزم من احتاج إلى سوى ذلك بالبيع والشراء في صور متعددة .
و " الثاني " المقابلة وكما يلزم الضامن دين المدين [ مع ] بقائه في ذمته وكما يلتزم كل من المتبايعين والمتصالحين والمتآجرين بما يلتزمه للآخر . وإذا كان كذلك فالنكاح المشروط فيه شرط فاسد لم يلزم الشارع صاحبه أن يعقده بدون ذلك الشرط ولا هو التزم أن يعقده مجردا عن الشرط . فإلزامه بما لم يلتزمه هو ولا ألزمه به الشارع إلزام للناس بما لم يلزمهم الله به ولا رسوله وذلك لا يجوز . ولأن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع : بدليل قوله في الحديث الصحيح : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=600840إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج } . ثم البيع لا يجوز إلا بالتراضي ; لقوله تعالى {
إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فالنكاح لا يجوز إلا بالتراضي بطريق الأولى والأحرى . والعقد الفاسد لم يرض به العاقد إلا على تلك الصفة
[ ص: 161 ] فإلزامه بدون تلك الصفة إلزام بعقد لم يرض به وهو خلاف النصوص والأصول ; ولهذا لم يجوز أن يلزم في البيع بما لم يرض به . ولهذا قال أصحاب
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=14953كالقاضي أبي يعلى وغيره : إذا صححنا البيع دون الشرط الفاسد على إحدى الروايتين عنه - فلمشترط الشرط إذا لم يعلم تحريمه الفسخ أو المطالبة بأرش فواته ; كما قالوا مثل ذلك في الشرط الصحيح إذا لم يوف به ; لكن الشرط الصحيح يلزم الوفاء به كالعقد الصحيح وإذا لم يوف به فله الفسخ مطلقا ; لأنه لم يرض بدونه .
وأما الشرط الفاسد فلا يلزم الوفاء به كما لا يلزم الوفاء بالعقد الفاسد ; لكن له أيضا العقد بدونه وله فسخ العقد كما لو اشترط صفة في البيع فلم يكن على تلك الصفة وكما لو ظهر بالبيع عيب .
فأحمد - رضي الله عنه - يقول في البيع مع الشرط الفاسد : إنه يصح البيع في إحدى الروايتين ; بل في أنصهما عنه لأن فوات الشرط والصفة لا يبطل البيع والمشترط ينجبر ضرره بتخليته من الفسخ كما في فوات الصفات المشروطة من العيوب .
وأما النكاح فالشروط فيه ألزم . وإذا شرط صفة في أحد الزوجين كالشرط الأوفى - في إحدى الروايتين وهو أحد الوجهين
لمالك والشافعي - ملك الفسخ لفواتها وكذلك له الفسخ عنده بالعيوب المانعة من مقصود النكاح ويملك الفسخ وأما التحليل فهو غير مقصود والمقصود في العقود عنده معتبر والمتعة نكاح إلى أجل والنكاح لا يتأجل .
[ ص: 162 ] " والشغار " علله هو وكثير من أصحابه
كالخلال وأبي بكر عبد العزيز بنفي المهر وكونه جعل أحد البضعين مهرا للآخر وهذا تعليل
أصحاب مالك وعلله كثير من أصحابه بتعليل
أصحاب الشافعي .
يبقى أن يقال : فكان ينبغي مع الشرط الفاسد أن يخير العاقد بين التزام العقد بدونه وبين فسخه كما في الشروط الفاسدة في البيع . قيل : إن قلنا إن النكاح لا ينعقد إلا بصيغة الإنكاح والتزويج ; لأن ذلك هو الصريح فيه وهو لا ينعقد بالكناية - كما يقوله
أبو حامد nindex.php?page=showalam&ids=14953والقاضي أبو يعلى وأتباعهما من
أصحاب أحمد موافقة
لأصحاب الشافعي وقلنا إن البيع يصح فيه شرط الخيار دون النكاح : ظهر الفرق لأن البيع يمكن عقده جائزا بخلاف النكاح . والمصححون لنكاح التحليل والشغار أو ونحوهما قد يقولون : ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم لم نصححه ; فإنا لا نصححه مع كونه شغارا وتحليلا ومتعة ولكن نبطل شرط أصل العقد في المهر ونبطل شرط التحليل كذلك شرط التأجيل عند من يقول بذلك . ويبقى العقد لازما ليس فيه شغار ولا تحليل ; ولهذا قال
أصحاب أبي حنيفة في أحد القولين : إنه يصح نكاح التحليل ولا تحل به للمطلق ثلاثا ; عملا بقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11838لعن الله المحلل والمحلل له } فإنهم إنما يصححونه مع إبطال شرط التحليل فيكون نكاحا لازما ولا يحلونها
[ ص: 163 ] للأول ; لأنه إذا أحلت للأول قصد بذلك تحليلها للأول فإذا لم تحل به للأول لم يقصد به التحليل للأول فلا يكون نكاح تحليل .
وعلى هذا القول لا ينكح أحد المرأة إلا نكاح رغبة ; لا نكاح تحليل ولو
نكحها بنية التحليل أو شرطه ثم قصد الرغبة هي وهو وأسقطا شرط التحليل : فهل يحتاج إلى استئناف عقد أم يكفي استصحاب العقد الأول ؟ فيه نزاع . وهو يشبه إسقاط الشرط الفاسد في البيع : هل يصح معه أم لا وهو قصد .
ومثله إذا عقد العقد بدون إذن من اشترط إذنه : هل يقع باطلا ( أو موقوفا على الإجازة ؟ فيه قولان مشهوران وهما قولان في مذهب
أحمد " أحدهما " أنه يقع باطلا ولا يوقف كقول
الشافعي .
" الثاني " أنه يقف على الإجازة كقول
أبي حنيفة ومالك فإذا
عقد العقد بنية فاسدة أو شرط فاسد فقد يقول : إنه على القولين في الوقف ; فمن قال بالوقف وقفه على إزالة المفسد ومن لا فلا . فزوال المانع كوجود المقتضي . وإذا كان موقوفا على حصول بعض شروطه فهو كالوقف على زوال بعض موانعه إذ جعلتموه زوجا مطلقا يلزمها نكاحه فقد ألزمتموها بنكاح لم ترض به وهذا خلاف الأصول والنصوص [ وأصح ] الأقوال في هذا الباب : أن الأمر إليها فإن رضيت بدون ذلك الشرط كان زوجا ولا يحتاج إلى استئناف عقد . وإن لم ترض به لم يكن زوجا : كالنكاح الموقوف على إجازتها وكذلك في النكاح
[ ص: 164 ] على مهر لم يسلم لها ; لتحريمه أو استحقاقه [ فإن شاءت ] أن ترضى به زوجا بمهر آخر كان ذلك وإن شاءت أن تفارقه فلها ذلك ; وليس قبل رضاها نكاح لازم .