ولما اعتقد أئمة الكلام المبتدع أن معنى كون الله خالقا لكل شيء هو ما تقدم : أنه لم يزل غير فاعل لشيء ولا متكلم بشيء حتى أحدث العالم ; لزمهم أن
يقولوا : إن القرآن أو غيره من كلام الله مخلوق منفصل بائن عنه . فإنه لو كان له كلام قديم أو كلام غير مخلوق ; لزم قدم العالم على الأصل الذي أصلوه لأن الكلام قد عرف العقلاء أنه إنما يكون بقدرة المتكلم ومشيئته . وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا قدرة ولا مشيئة ; فهذا لم يكن يتصوره أحد من العقلاء ولا نعرف أن أحدا قاله بل ولا يخطر ببال جماهير الناس حتى أحدث القول به ابن كلاب . وإنما ألجأه إلى هذا : أن أولئك المتكلمين لما أظهروا موجب أصلهم وهو القول بأن القرآن مخلوق أظهروا ذلك في أوائل المائة الثانية فلما سمع ذلك علماء الأمة أنكروا ذلك ثم صار كلما ظهر قولهم أنكره العلماء - وكلام السلف والأئمة في إنكار ذلك مشهور متواتر - إلى أن صار لهؤلاء المتكلمين الكلام المحدث في دولة المأمون عز وأدخلوه في ذلك وألقوا إليه الحجج التي لهم . وقالوا إما أن يكون العالم مخلوقا أو قديما . وهذا الثاني كفر ظاهر معلوم فساده بالعقل والشرع . وإذا كان العالم مخلوقا محدثا بعد أن لم يكن ; لم يبق قديم إلا الله وحده . فلو كان العالم قديما ; لزم أن يكون مع الله قديم آخر . وكذلك الكلام إن كان قائما بذاته ; لزم دوام الحوادث وقيامها بالرب وهذا يبطل الدليل الذي اشتهر بينهم على حدوث العالم . وإن كان منفصلا عنه لزم وجود المخلوق في الأزل ; وهذا قول بقدم العالم . فلما امتحن الناس بذلك واشتهرت هذه المحنة وثبت الله من ثبته من أئمة السنة ; وكان الإمام - الذي ثبته الله وجعله إماما للسنة حتى صار أهل العلم بعد ظهور المحنة يمتحنون الناس به فمن وافقه كان سنيا وإلا كان بدعيا - هو الإمام أحمد بن حنبل فثبت على أن القرآن كلام الله غير مخلوق .
وكان " المأمون " لما صار إلى الثغر بطرسوس كتب بالمحنة كتابا إلى نائبه بالعراق " إسحاق بن إبراهيم " فدعا العلماء والفقهاء والقضاة ; فامتنعوا عن الإجابة والموافقة فأعاد عليه الجواب فكتب كتابا ثانيا يقول فيه عن القاضيين : بشر بن الوليد وعبد الرحمن بن إسحاق إن لم يجيبا فاضرب أعناقهما ويقول عن الباقين إن لم يجيبوا فقيدهم فأرسلهم إلي . فأجاب القاضيان وذكرا لأصحابهما أنهما مكرهان وأجاب أكثر الناس قبل أن يقيدهم لما رأوا الوعيد ولم يجب ستة أنفس فقيدهم فلما قيدوا أجاب الباقون إلا اثنين : أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح النيسابوري ; فأرسلوهما مقيدين إليه ; فمات محمد بن نوح في الطريق ومات المأمون قبل أن يصل أحمد إليه وتولى أخوه أبو إسحاق وتولى القضاء أحمد بن أبي دؤاد وأقام أحمد بن حنبل في الحبس من سنة ثماني عشرة إلى سنة عشرين . ثم إنهم طلبوه وناظروه أياما متعددة فدفع حججهم وبين فسادها وأنهم لم يأتوا على ما يقولونه بحجة لا من كتاب ولا من سنة ولا من أثر وأنه ليس لهم أن يبتدعوا قولا ويلزموا الناس بموافقتهم عليه ويعاقبوا من خالفهم . وإنما يلزم الناس ما ألزمهم الله ورسوله ; ويعاقب من عصى الله ورسوله ; فإن الإيجاب والتحريم والثواب والعقاب والتكفير والتفسيق هو إلى الله ورسوله ; ليس لأحد في هذا حكم وإنما على الناس إيجاب ما أوجبه الله ورسوله ; وتحريم ما حرمه الله ورسوله وتصديق ما أخبر الله به ورسوله . وجرت في ذلك أمور يطول شرحها . ولما اشتهر هذا وتبين للناس باطن أمرهم ; وأنهم معطلة للصفات يقولون : إن الله لا يرى ولا له علم ولا قدرة وإنه ليس فوق العرش رب ; ولا على السموات إله ; وإن محمدا لم يعرج به إلى ربه إلى غير ذلك من أقوال الجهمية النفاة ; كثر رد الطوائف عليهم بالقرآن والحديث والآثار تارة ; وبالكلام الحق تارة ; وبالباطل تارة . وكان ممن انتدب للرد عليهم أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وكان له فضل وعلم ودين .
ومن قال : إنه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصارى في المسلمين - كما يذكره طائفة في مثالبه ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك - فهذا كذب عليه . وإنما افترى هذا عليه المعتزلة والجهمية الذين رد عليهم ; فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى . وقد ذكر مثل ذلك عنهم الإمام أحمد في الرد على الجهمية ; وصار ينقل هذا من ليس من المعتزلة من السالمية ويذكره أهل الحديث والفقهاء الذين ينفرون عنه لبدعته في القرآن ; ويستعينون بمثل هذا الكلام الذي هو من افتراء الجهمية والمعتزلة عليه . ولا يعلم هؤلاء أن الذين ذموه بمثل هذا هم شر منه وهو خير وأقرب إلى السنة منهم .