الوجه الثالث أن
المتكلمين بالحدود طائفة قليلة في بني آدم لا سيما الصناعة المنطقية . فإن واضعها هو
أرسطو وسلك خلفه فيها طائفة من بني آدم .
ومن المعلوم أن علوم بني آدم - عامتهم وخاصتهم - حاصلة بدون ذلك . فبطل قولهم " إن المعرفة متوقفة عليها " أما الأنبياء فلا ريب في استغنائهم عنها وكذلك أتباع الأنبياء من العلماء والعامة . فإن القرون الثلاثة من هذه الأمة - الذين كانوا أعلم بني آدم علوما ومعارف - لم يكن تكلف
[ ص: 46 ] هذه الحدود من عادتهم فإنهم لم يبتدعوها ولم تكن الكتب الأعجمية الرومية عربت لهم . وإنما حدثت بعدهم من مبتدعة
المتكلمين والفلاسفة ومن حين حدثت صار بينهم من الاختلاف والجهل ما لا يعلمه إلا الله .
وكذلك علم " الطب " و " الحساب " وغير ذلك لا تجد أئمة هذه العلوم يتكلفون هذه الحدود المركبة من الجنس والفصل إلا من خلط ذلك بصناعتهم من أهل المنطق .
وكذلك "
النحاة " مثل
سيبويه الذي ليس في العالم مثل كتابه وفيه حكمة لسان العرب : لم يتكلف فيه حد الاسم والفاعل ونحو ذلك كما فعل غيره . ولما تكلف
النحاة حد الاسم ذكروا حدودا كثيرة كلها مطعون فيها عندهم . وكذلك ما تكلف متأخروهم من حد الفاعل والمبتدأ والخبر ونحو ذلك لم يدخل فيها عندهم من هو إمام في الصناعة ولا حاذق فيها .
وكذلك الحدود التي يتكلفها بعض الفقهاء للطهارة والنجاسة وغير ذلك من معاني الأسماء المتداولة بينهم وكذلك الحدود التي يتكلفها الناظرون في أصول الفقه لمثل الخبر والقياس والعلم وغير ذلك لم يدخل فيها إلا من ليس بإمام في الفن . وإلى الساعة لم يسلم لهم حد . وكذلك حدود أهل الكلام .
[ ص: 47 ] فإذا كان حذاق بني آدم في كل فن من العلم أحكموه بدون هذه الحدود المتكلفة : بطل
دعوى توقف المعرفة عليها .
وأما علوم بني آدم الذين لا يصنفون الكتب : فهي مما لا يحصيه إلا الله ولهم من البصائر والمكاشفات والتحقيق والمعارف ما ليس لأهل هذه الحدود المتكلفة . فكيف يجوز أن تكون معرفة الأشياء متوقفة عليها ؟ .