الوجه الثالث أن يقال : إذا كان لا بد في القياس من قضية كلية والحس لا يدرك الكليات وإنما تدرك بالعقل ولا يجوز أن تكون معلومة بقياس آخر لما يلزم من الدور أو التسلسل . فلا بد من قضايا كلية تعقل بلا قياس كالبديهيات التي جعلوها .
فنقول : إذ وجب الاعتراف بأن من العلوم الكلية العقلية ما يبتدئ في النفوس ويبدهها بلا قياس وجب الجزم بأن
العلوم الكلية العقلية قد تستغني عن القياس . وهذا مما اعترفوا به هم وجميع بني آدم : أن من التصور والتصديق ما هو بديهي لا يحتاج إلى كسب بالحد والقياس وإلا لزم الدور أو التسلسل .
وإذا كان كذلك فنقول : إذا جاز هذا في علم كلي جاز في آخر إذ ليس بين ما يمكن أن يعلم ابتداء من العلوم البديهية وما لا يجوز أن يعلم
[ ص: 79 ] فصل يطرد ; بل هذا يختلف باختلاف قوة العقل وصفائه وكثرة إدراك الجزئيات التي تعلم بواسطتها الأمور الكلية . فما من علم من الكليات إلا وعلمه يمكن بدون القياس المنطقي . فلا يجوز الحكم بتوقف شيء من العلوم الكلية عليه . وهذا يتبين : بالوجه الرابع وهو أن نقول : هب أن صورة القياس المنطقي ومادته تفيد علوما كلية لكن من أين يعلم أن العلم الكلي لا ينال حتى يقول هؤلاء المتكلفون القافون ما ليس لهم به علم هم ومن قلدهم من أهل الملل وعلمائهم : إن ما ليس ببديهي من التصورات والتصديقات لا يعلم إلا بالحد والقياس وعدم العلم ليس علما بالعدم . فالقائل لذلك لم يمتحن أحوال نفسه . ولو امتحن أحوال نفسه لوجد له علوما كلية بدون القياس المنطقي وتصورات كثيرة بدون الحد . وإن علم ذلك من نفسه أو بني جنسه فمن أين له أن جميع بني آدم - مع تفاوت فطرهم وعلومهم ومواهب الحق لهم - هم بمنزلته وأن الله لا يمنح أحدا علما إلا بقياس منطقي ينعقد في نفسه حتى يزعم هؤلاء : أن الأنبياء كانوا كذلك بل صعدوا إلى رب العالمين وزعموا أن علمه بأمور خلقه إنما هو بواسطة القياس المنطقي . وليس معهم بهذا النفي الذي لم يحيطوا بعلمه من حجة إلا عدم
[ ص: 80 ] العلم فيدعون العلم وقد تكلموا بهذه القضية الكلية السالبة التي تعم ما لا يحصي عدده إلا الله بلا علم لهم بها أصلا : ونزيد هذا بيانا : بالوجه الخامس وهو أن المبادئ المذكورة التي جعلوها مفيدة لليقين - وهي الحسيات الباطنة والظاهرة والبديهيات والتجريبيات والحدسيات - لا ريب أنها تفيد اليقين الحسي . فمن أين لهم أن اليقين لا يحصل بغيرها ؟ لا بد من دليل على النفي حتى يصح قولهم : لا يحصل اليقين بدونها .
فهذا صحيح لكنه ليس هو قول رءوسهم .
ولا ريب أن من له عقل وإيمان يجب أن يخالفهم في تكذيبهم بالحق الخارج عن هذا الطريق .
ومن هذا الموضع صار منافقا وتزندق من نافق منهم . وصار عند عقلاء الناس من أهل الملل وغيرهم : أن المنطق مظنة التكذيب بالحق والعناد والزندقة والنفاق حتى حكى لنا بعض الناس : أن شخصا من الأعاجم جاء ليقرأ على بعض شيوخهم منطقا فقرأ منه قطعة ثم قال : حواجا أي باب ترك الصلاة ؟ فضحكوا منه .
[ ص: 81 ] وهذا موجود بالاستقراء : أن من حسن الظن بالمنطق وأهله إن لم يكن له مادة من دين وعقل يستفيد بها الحق الذي ينتفع به وإلا فسد عقله ودينه .
ولهذا يوجد فيهم من الكفر والنفاق والجهل والضلال وفساد الأقوال والأفعال ما هو ظاهر لكل ناظر من الرجال . ولهذا كان أول من خلطه بأصول الفقه ونحوه من العلوم الإسلامية كثير الاضطراب .
فإنه كان كثير من فضلاء المسلمين وعلمائهم يقولون : المنطق كالحساب ونحوه مما لا يعلم به صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوته ولا انتفاؤه .
فهذا كلام من رأى ظاهره وما فيه من الكلام على الأمور المفردة لفظا ومعنى ثم على تأليف المفردات وهو القضايا ونقيضها وعكسها المستوي وعكس النقيض ثم على تأليفها بالحد والقياس وعلى مواد القياس وإلا فالتحقيق : أنه مشتمل على أمور فاسدة ودعاوى باطلة كثيرة لا يتسع هذا الموضع لاستقصائها والله أعلم . والحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله
محمد الداعي إلى الهدى والرشاد وعلى آله ومن اتبع هداه .