فصل
محبة الله بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده ; بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين كما أن
[ ص: 49 ] التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين ; فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة : إما عن محبة محمودة أو عن محبة مذمومة كما قد بسطنا ذلك في " قاعدة المحبة " من القواعد الكبار . فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة .
وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله سبحانه وتعالى إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند الله لا يكون عملا صالحا بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة الله ; فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=80366يقول الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا فأشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك } وثبت في الصحيح حديث {
nindex.php?page=hadith&LINKID=596724الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار : القارئ المرائي والمجاهد المرائي والمتصدق المرائي } . بل
إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل وأنزل به جميع الكتب واتفق عليه أئمة أهل الإيمان وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه . قال تعالى : {
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم }
{
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين }
{
ألا لله الدين الخالص } والسورة كلها عامتها في هذا المعنى . كقوله : {
قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين }
{
وأمرت لأن أكون أول المسلمين } إلى قوله :
[ ص: 50 ] {
قل الله أعبد مخلصا له ديني } إلى قوله : {
أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه } إلى قوله : {
قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره } الآية . إلى قوله : {
أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون } ؟ {
قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون }
{
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } إلى قوله : {
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } إلى قوله {
بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } وقال تعالى فيما قصه من قصة
آدم وإبليس أنه قال : {
فبعزتك لأغوينهم أجمعين }
{
إلا عبادك منهم المخلصين } وقال تعالى : {
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } وقال : {
إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون }
{
إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } فبين أن سلطان الشيطان وإغواءه إنما هو لغير المخلصين ; ولهذا قال في قصة
يوسف : {
كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } وأتباع الشيطان هم أصحاب النار كما قال تعالى : {
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } وقد قال سبحانه : {
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وهذه الآية في حق من لم يتب ولهذا خصص الشرك وقيد ما
[ ص: 51 ] سواه بالمشيئة فأخبر أنه لا يغفر الشرك لمن لم يتب منه وما دونه يغفره لمن يشاء . وأما قوله : {
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } فتلك في حق التائبين ; ولهذا عم وأطلق وسياق الآية يبين ذلك مع سبب نزولها .
وقد أخبر سبحانه أن الأولين والآخرين إنما أمروا بذلك في غير موضع كالسورة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على
أبي لما أمره الله تعالى أن يقرأ عليه قراءة إبلاغ وإسماع بخصوصه فقال : {
وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } {
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } الآية . وهذا حقيقة قول لا إله إلا الله .
وبذلك بعث جميع الرسل قال الله تعالى : {
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال : {
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى : {
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الأصل كما قال
نوح عليه السلام {
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وكذلك
هود وصالح وشعيب عليهم السلام وغيرهم كل يقول : {
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } لا سيما أفضل
[ ص: 52 ] الرسل الذين اتخذ الله كلاهما خليلا
إبراهيم ومحمدا عليهما السلام فإن هذا الأصل بينه الله بهما وأيدهما فيه ونشره بهما
فإبراهيم هو الإمام الذي قال الله فيه : {
إني جاعلك للناس إماما } وفي ذريته جعل النبوة والكتاب والرسل فأهل هذه النبوة والرسالة هم من آله الذين بارك الله عليهم قال سبحانه : {
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون }
{
إلا الذي فطرني فإنه سيهدين }
{
وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } . فهذه الكلمة هي كلمة الإخلاص لله وهي البراءة من كل معبود إلا من الخالق الذي فطرنا كما قال صاحب يس : {
وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون }
{
أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون }
{
إني إذا لفي ضلال مبين } وقال تعالى في قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلال من اتخذ بعض الكواكب ربا يعبده من دون الله قال : {
فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون }
{
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } إلى قوله {
ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا } وقال
إبراهيم الخليل عليه السلام {
أفرأيتم ما كنتم تعبدون }
{
أنتم وآباؤكم الأقدمون }
{
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }
{
الذي خلقني فهو يهدين }
{
والذي هو يطعمني ويسقين }
{
وإذا مرضت فهو يشفين }
{
والذي يميتني ثم يحيين } وقال تعالى {
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم } الآية .
ونبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أقام الله به الدين الخالص لله دين التوحيد وقمع به المشركين من كان مشركا في الأصل ومن الذين كفروا من أهل الكتب وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام
أحمد وغيره {
nindex.php?page=hadith&LINKID=81525بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم } وقد تقدم بعض ما أنزل الله عليه من الآيات المتضمنة للتوحيد . وقال تعالى أيضا : {
والصافات صفا } إلى قوله : {
إن إلهكم لواحد } إلى قوله {
إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون }
{
ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون }
{
بل جاء بالحق وصدق المرسلين } إلى قوله : {
أولئك لهم رزق معلوم }
{
فواكه وهم مكرمون } إلى ما ذكره من قصص الأنبياء في التوحيد وإخلاص الدين لله إلى قوله : {
سبحان الله عما يصفون }
{
إلا عباد الله المخلصين } وقال تعالى : {
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا }
{
إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما } وفي الجملة فهذا الأصل في سورة الأنعام والأعراف والنور وآل طسم
[ ص: 54 ] وآل حم وآل المر وسور المفصل وغير ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر فهو أصل الأصول وقاعدة الدين حتى في سورتي الإخلاص : ( {
قل يا أيها الكافرون } و ( {
قل هو الله أحد } .
وهاتان السورتان . كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاة التطوع كركعتي الطواف وسنة الفجر وهما متضمنتان للتوحيد . فأما ( {
قل يا أيها الكافرون } فهي متضمنة للتوحيد العملي الإرادي وهو إخلاص الدين لله بالقصد والإرادة وهو الذي يتكلم به مشايخ التصوف غالبا . وأما سورة ( {
قل هو الله } أحد فمتضمنة للتوحيد القولي العملي كما ثبت في الصحيحين عن
عائشة {
nindex.php?page=hadith&LINKID=596725أن رجلا كان يقرأ : قل هو الله أحد في صلاته . فقال النبي صلى الله عليه وسلم سلوه لم يفعل ذلك ؟ فقال : لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها فقال أخبروه أن الله يحبه } . ولهذا
تضمنت هذه السورة من وصف الله سبحانه وتعالى الذي ينفي قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل ما صارت به هي الأصل المعتمد في مسائل الذات كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع .
وذكرنا اعتماد الأئمة عليها مع ما تضمنته من تفسير الأحد الصمد كما جاء تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم
والصحابة والتابعين وما دل على ذلك من الدلائل . لكن المقصود هنا هو " التوحيد العملي " وهو إخلاص الدين لله وإن
[ ص: 55 ] كان أحد النوعين مرتبطا بالآخر . فلا يوجد أحد من أهل التعطيل
الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إلا وفيه نوع من الشرك العملي إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين الله وبين خلقه أو بينه وبين المعدومات كما يسوي المعطلة بينه وبين المعدومات في الصفات السلبية التي لا تستلزم مدحا ولا ثبوت كمال أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات في صفات النقص وكما يسوون إذا أثبتوا هم ومن ضاهاهم من الممثلة بينه وبين المخلوقات في حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدلون بربهم ويجعلون له أندادا ويسوون المخلوقات برب العالمين .
واليهود كثيرا ما يعدلون الخالق بالمخلوق ويمثلونه به حتى يصفوا الله بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص التي يجب تنزيهه عنها وهي من صفات خلقه
والنصارى كثيرا ما يعدلون المخلوق بالخالق حتى يجعلوا في المخلوقات من نعوت الربوبية وصفات الإلهية ويجوزون له ما لا يصلح إلا للخالق سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
والله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا الضالين . وقد {
nindex.php?page=hadith&LINKID=68982قال النبي صلى الله عليه وسلم اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون } وفي هذه الأمة من فيه شبه من هؤلاء وهؤلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=32159لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو [ ص: 56 ] دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا : يا رسول الله : اليهود والنصارى قال فمن } والحديث في الصحيحين . فإذا كان
أصل العمل الديني هو إخلاص الدين لله وهو إرادة الله وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته وهذا كمال المحبة لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقوله : {
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقوله : {
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } وأمثال هذا والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته وكمال الذل ونهايته ; فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودا والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبودا ; ولهذا قال تعالى : {
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } فبين سبحانه أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادا وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الله فالذين آمنوا أشد حبا لله منهم لله ولأوثانهم ; لأن المؤمنين أعلم بالله والحب يتبع العلم ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب ومعلوم أن ذلك أكمل .
قال تعالى : {
ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } واسم المحبة فيه إطلاق وعموم فإن
المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين وإن كان ذلك من محبة الله وإن كانت المحبة التي لله
[ ص: 57 ] لا يستحقها غيره ; ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مذكورة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه والتبتل له ; ونحو ذلك . فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=19005رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله } . فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه .
وقد قال تعالى : {
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله } إلى قوله : {
أجر عظيم } والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة .
وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد . والجهاد دليل المحبة الكاملة . قال تعالى : {
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم } الآية . وقال تعالى في صفة المحبين المحبوبين : {
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم .
[ ص: 58 ] فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه ويبغض ما يبغض محبوبه ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه ; ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه فهو موافق له في ذلك .
وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له كما {
nindex.php?page=hadith&LINKID=596726قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلال : لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك . فقال لهم : يا إخوتي هل أغضبتكم قالوا لا ; يغفر الله لك يا أبا بكر } وكان قد مر بهم
أبو سفيان بن حرب فقالوا : ما أخذت السيوف من عدو الله مأخذها فقال لهم
أبو بكر : أتقولون هذا لسيد
قريش ؟ وذكر
أبو بكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له ما تقدم ; لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضبا لله لكمال ما عندهم من الموالاة لله ورسوله والمعاداة لأعداء الله ورسوله .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34296لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ; ويده التي يبطش بها ; ورجله التي يمشي بها ; فبي يسمع وبي يبصر : وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن : يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه } . فبين سبحانه أنه يتردد لأن التردد تعارض إرادتين وهو سبحانه يحب ما يحب عبده
[ ص: 59 ] ويكره ما يكرهه وهو يكره الموت فهو يكرهه كما قال وأنا أكره مساءته ; وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت فسمى ذلك ترددا ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك . وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه . وقد يقال له اتحاد نوعي وصفي وليس ذلك اتحاد الذاتين ; فإن ذلك محال ممتنع والقائل به كافر وهو قول
النصارى والغالية من
الرافضة والنساك
كالحلاجية ونحوهم وهو " الاتحاد المقيد " في شيء بعينه .
وأما " الاتحاد المطلق " الذي هو قول أهل وحدة الوجود الذين يزعمون أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق فهذا تعطيل للصانع وجحود له وهو جامع لكل شرك ; فكما أن الاتحاد نوعان فكذلك الحلول نوعان : قوم يقولون : بالحلول المقيد في بعض الأشخاص وقوم يقولون : بحلوله في كل شيء وهم
الجهمية الذين يقولون : إن ذات الله في كل مكان .
وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء في المحبة أن يغيب بمحبوبه عن نفسه وحبه ; ويغيب بمذكوره عن ذكره ; وبمعروفه عن معرفته وبموجوده عن وجوده ; حتى لا يشهد إلا محبوبه فيظن في زوال تمييزه ونقص عقله وسكره أنه هو محبوبه . كما قيل : إن محبوبا وقع في اليم فألقى المحب نفسه خلفه فقال
[ ص: 60 ] أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك ؟ فقال غبت بك عني فظننت أنك أني فلا ريب أن هذا خطأ وضلال . لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورا في زوال عقله ; فلا يكون مؤاخذا بما يصدر منه من الكلام في هذه الحال التي زال فيها عقله بغير سبب محظور ; كما قيل في عقلاء المجانين : إنهم قوم آتاهم الله عقولا وأحوالا فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب . وأما إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظورا لم يكن السكران معذورا ; وإن كان لا يحكم بكفره في أصح القولين كما لا يقع طلاقه في أصح القولين وإن كان النزاع في الحكم مشهورا .
وقد بسطنا الكلام في هذا ; وفيمن يسلم له حاله ومن لا يسلم في " قاعدة " ذلك . وبكل حال ; فالفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا حال ناقص ; وإن كان صاحبه غير مكلف ولهذا لم يرد مثل هذا عن
الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة ولا عن نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الرسل وإن كان لهؤلاء في صعق
موسى نوع تعلق وإنما حدث زوال العقل عند الواردات الإلهية على بعض
التابعين ومن بعدهم وإن كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته فمن المعلوم أن من
[ ص: 61 ] أحب الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى : {
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } . والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل بل ذلك يغريه بملازمة المحبة كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب الله ويرضاه من جهاد أعدائه . فإن الملام على ذلك كثير . وأما الملام على فعل ما يكرهه الله أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق وليس من المحمود الصبر على هذا الملام بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . وبهذا يحصل الفرق بين " الملامية " الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك وبين " الملامية " الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك .