وقوله :
يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ؛ معناه أن
الشهادة في وقت الوصية هي للموت؛ ليس أن الموت حاضره وهو يوصي بما يقول الموصي - صحيحا كان؛ أو غير صحيح - : " إذا حضرني الموت - أو إذا مت - فافعلوا...؛ واصنعوا... " ؛ والشهادة ترتفع من جهتين؛ إحداهما أن ترتفع بالابتداء؛ ويكون خبرها " اثنان " ؛ والمعنى : " شهادة هذه الحال؛ شهادة اثنين " ؛ فتحذف " شهادة " ؛ ويقوم " اثنان " ؛ مقامها.
[ ص: 215 ] ويجوز أن يكون رفع " شهادة بينكم " ؛ على قوله : " وفيما فرض الله عليكم في شهادتكم أن يشهد اثنان " ؛ فيرتفع " اثنان " ؛ بـ " شهادة " ؛ والمعنى : " أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم " ؛ معنى " منكم " : قيل فيه قولان؛ قال بعضهم : " منكم " : من أهل دينكم؛
أو آخران من غيركم ؛ من غير أهل ملتكم؛ وقال بعضهم : " ذوا عدل منكم " : من أهل الميت؛ " أو آخران من غيركم " : من غير أهل الميت؛ واحتج هؤلاء بأن قوله :
فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ؛ يدل على أن " منكم " : من ذوي قراباتكم؛ وقال هؤلاء : إذا كانوا أيضا عدولا من قرابات الميت؛ فهم أولى؛ لأنهم أعلم بأحوال الأهل من الغرائب؛ وأعلم بما يصلحهم؛ واحتجوا أيضا بأن
ذوا عدل ؛ لا يكونان من غير أهل ملة الإسلام؛ لأن الكفر قد باعد من العدالة؛ فأعلم الله - عز وجل - أن
الوصية ينبغي أن يكون شاهداها عدلين من أهل الميت؛ أو من غير أهله؛ إن كان الموصي في حضر؛ وكذلك إن كان في سفر؛ فقوله :
إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ؛ ذكر الموت في السفر؛ بعد قوله :
إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ؛ فكأن في الآية - والله أعلم - دليلا على
الشهادة في الحضر والسفر؛ وقد جاء في التفسير أن اثنين كانا شهدا في السفر غير مسلمين؛
[ ص: 216 ] وللإجماع أن الشهود لا يجب أن يحلفوا؛ وقد أجاز قوم في السفر شهادة الذميين؛ وقال الله - عز وجل - :
وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ؛ وقال :
ممن ترضون من الشهداء ؛
والشاهد إذا علم أنه كذاب؛ لم تجز أن تقبل شهادته؛ وقد علمنا أن النصارى زعمت أن الله ثالث ثلاثة؛ وأن اليهود قالت : إن العزير ابن الله؛ وعلمنا أنهم كاذبون؛ فكيف يجوز أن تقبل شهادة من هو مقيم على الكذب؟ ومعنى قوله :
تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله ؛ كان الناس
بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر؛ لأنه وقت اجتماع الناس؛ وقوله :
إن ارتبتم ؛ إن وقع في أنفسكم منهم ريب؛ أي : ظننتم بهم ريبة؛