صفحة جزء
الحديث الأول: حديث المعراج بطوله: فقال:

342 349 - ثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، قال: كان أبو ذر يحدث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء، فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا؟ قال: جبريل، قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمد. فقال: أرسل إليه؟ قال: نعم، فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة، وعلى يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. حتى عرج بي إلى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنها مثل ما قال الأول، ففتح .

قال أنس: فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، [ ص: 107 ] وإبراهيم في السماء السادسة.

قال أنس: " فلما مر جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، فقلت: من هذا؟ قال: هذا إدريس، ثم مررت بموسى عليه السلام، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا موسى، ثم مررت بعيسى عليه السلام، فقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، قلت: من هذا؟ قال: عيسى، ثم مررت بإبراهيم عليه السلام، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم ".

قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم، أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام ".

قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق، فراجعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها، قال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق، فراجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه، فقال: ارجع إلى ربك ; فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته، فقال: هي خمس، وهي خمسون، لا يبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى، فقال: ارجع إلى ربك، فقلت: استحييت من ربي، ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة، [ ص: 108 ] فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك ".



هذا الحديث رواه جماعة عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي ذر وأنس .

وخالفهم أبو ضمرة أنس بن عياض ، فرواه عن يونس ، عن الزهري ، عن أنس ، عن أبي بن كعب ، وهو وهم منه -: قاله الدارقطني ، وأشار إليه أبو زرعة وأبو حاتم .

وقد اختلف في إسناد هذا الحديث على أنس ، فالزهري رواه عنه، عن أبي ذر ، وجعل ذكر فرض الصلوات منه عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه قتادة ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، وقد خرج حديثه البخاري في موضع آخر.

ورواه شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بسياق مطول جدا.

وقد خرج حديثه البخاري في آخر " كتابه " وفيه ألفاظ استنكرت على شريك ، وتفرد بها.

وقد رواه ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - أيضا - بدون سياق شريك .

وقد خرج حديثه مسلم في " صحيحه ".

وقال الدارقطني : يشبه أن تكون الأقاويل كلها صحاحا ; لأن رواتها ثقات.

[ ص: 109 ] قال: ويشبه أن يكون أنس سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، واستثبته من أبي ذر ومالك بن صعصعة .

وقال أبو حاتم الرازي : أرجو أن يكون قول الزهري وقتادة عن أنس صحيحين. وقال - مرة -: قول الزهري أصح، قال: ولا أعدل به أحدا.

وشق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وغسله من طست من ذهب من ماء زمزم وملؤه إيمانا وحكمة مما تطابقت عليه أحاديث المعراج.

وروى ثابت ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني: ظئره - فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.

خرجه مسلم .

وليس في هذا الحديث أنه حشي إيمانا وحكمة، وقد روي هذا الحديث من رواية أبي ذر وعتبة بن عبد السلمي ، وفي روايتهما: أنه ملئ سكينة، وروي أيضا من حديث أبي ذر ، وفيه أنه أدخل قلبه الرأفة والرحمة.

فهذا الشرح كان في حال صغره، وهو غير الشرح المذكور في ليلة المعراج، ومن تأمل ألفاظ الأحاديث الواردة في شرح صدره وملئه إيمانا وحكمة أو سكينة أو رأفة ورحمة ظهر له من ذلك أنه وضع في قلبه جسم [ ص: 110 ] محسوس مشاهد، نشأ عنه ما كان في قلبه من هذه المعاني، والله سبحانه قادر على أن يخلق من المعاني أجساما محسوسة مشاهدة، كما يجعل الموت في صورة كبش أملح يذبح.

وفي حديث الزهري ، عن أنس ، عن أبي ذر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثم أخذ بيدي، فعرج بي إلى السماء ".

وفي حديث قتادة وغيره، عن أنس ، أنه أركبه البراق وهي زيادة صحيحة لم يذكرها الزهري في حديثه.

وقول خازن السماء: " أرسل إليه؟ " الأظهر - والله أعلم - أنه استفهم: هل أرسل الله إليه يستدعيه إلى السماء، ولم يرد إرساله إلى أهل الأرض، فإن ذلك كان قبل هذه الليلة بمدة طويلة، والظاهر أنه لا يخفى مثل ذلك على أهل السماء وخزنتها، لا سيما مع حراستها بالشهب ومنع الشياطين من استراق السمع منها.

وقيل: إن أهل السماء لم يعلموا بإرساله إلى أهل الأرض حتى صعد إليهم، ويشهد لهذا: أن في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس في صفة الإسراء، قال: " ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فنادى أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل . قال: ومن معك؟ قال: معي محمد . قال: وقد بعث؟ قال: نعم، فقالوا: مرحبا به وأهلا، فيستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم " وذكر الحديث بطوله.

وقد خرجه البخاري في آخر " كتابه " هذا.

و" الأسودة ": جمع سواد، وهو الشخص، يقال: سواد وأسودة، مثل قراح وأقرحة، وتجمع: أسودة على أساود، فهو جمع الجمع.

و" النسم ": جمع نسمة، وهي النفس.

[ ص: 111 ] والمراد بذلك: أرواح بني آدم، وأن أهل الجنة على يمين آدم وأهل النار على يساره.

قال بعضهم: ولا يناقض هذا ما ورد: أن أرواح المؤمنين في الجنة، أو في الصور الذي ينفخ فيه، أو في القبور، وأرواح الكافرين في سجين ; لأن هذا في أحوال مختلفة وأوقات متغايرة وفي هذا الجواب نظر.

ومنهم من قال: إنما رأى في السماء الدنيا عن يمين آدم وشماله نسم بنيه الذين لم يولدوا بعد ولم تخلق أجسادهم، فأما أرواح الموتى التي فارقت أجسادها بالموت فليست في السماء الدنيا، بل أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في سجين، وقد قال الله تعالى: إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء

وقد جاء في حديث البراء بن عازب وأبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن روح الكافر إذا خرجت لم تفتح لها أبواب السماء، فتطرح طرحا " وقرأ: ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق

والأظهر - والله أعلم -: أن آدم عليه السلام في السماء الدنيا ينظر إلى نسم بنيه عن يمينه وشماله، ونسم بنيه مستقرة في مستقرها، فنسم المؤمنين في الجنة ونسم الكافرين في النار، وليست عند آدم في السماء الدنيا.

[ ص: 112 ] ويدل على هذا: ما خرجه البزار وابن جرير والخلال وغيرهم من رواية أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أو غيره، عن أبي هريرة ، فذكر حديث الإسراء بطوله، وفيه: أنه لما دخل إلى سماء الدنيا فإذا هو برجل تام الخلق، لم ينقص من خلقه شيء كما ينتقص من خلق الناس، عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن، فقال جبريل : هذا أبوك آدم ، وهذا الباب الذي عن يمينه الجنة، فإذا نظر من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر من يدخل من ذريته جهنم بكى وحزن - وذكر الحديث بطوله.

ومما يوضح هذا المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في صلاة الكسوف الجنة والنار وهو في الأرض، وليست الجنة في الأرض، وروي: أنه رأى ليلة أسري به الجنة والنار أيضا، وليست النار في السماء، وإنما رآهما وهو في السماء تارة، ورآهما وهو في الأرض أخرى.

وكذلك رؤية آدم وهو في السماء الدنيا نسم بنيه المستقرة في الجنة وفي النار، وليست الجنة والنار عند آدم في سماء الدنيا.

وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة وهي مستقر أرواح الموتى في "كتاب أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور" ولله الحمد.

وفي حديث الزهري ، عن أنس ، عن أبي ذر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى ، ولم يثبت كيف منازلهم، إلا أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة ، وهذا - والله أعلم - مما لم يحفظه الزهري جيدا.

[ ص: 113 ] وفي رواية قتادة ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في السماء الدنيا آدم ، وفي السماء الثانية يحيى وعيسى ، وهما ابنا الخالة، وفي السماء الثالثة يوسف ، وفي الرابعة إدريس ، وفي الخامسة هارون ، وفي السادسة موسى ، وفي السابعة إبراهيم عليهم السلام.

وفي حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس ، وقد خرجه البخاري في آخر " صحيحه " هذا: أنه رأى آدم في السماء الدنيا، وإدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة - قال الراوي: لم أحفظ اسمه - وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله عز وجل.

وهذا يوافق ما في حديث الزهري ، عن أنس ، أن إبراهيم عليه السلام في السماء السادسة، وفيه - أيضا -: أنه مر بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بإبراهيم ، وهذا يشعر برفع عيسى على موسى ، وهذا كله إنما جاء من عدم ضبط منازلهم كما صرح به في الحديث نفسه.

وفي حديث حماد بن سلمة عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الإسراء، أنه رأى آدم في الأولى، ويحيى وعيسى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور.

وقد خرجه مسلم بطوله.

والذي رآه في السماء من الأنبياء عليهم السلام إنما هو أرواحهم، إلا عيسى عليه السلام فإنه رفع بجسده إلى السماء.

وقد قال طائفة من السلف: إن جميع الرسل لا يتركون بعد موتهم في [ ص: 114 ] الأرض أكثر من أربعين يوما، ثم ترفع جثثهم إلى السماء، روي ذلك عن ابن المسيب ، وعن عمر بن عبد العزيز ، وأنه قال: وأخبرني بذلك غير واحد ممن أدركته، فعلى هذا يكون المرئي في السماء أشخاصهم كما كانوا في الأرض.

وقول ابن شهاب : " أخبرني ابن حزم "، الظاهر: أنه أبو بكر بن عمرو بن حزم .

" أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري " أبو حبة بالباء الموحدة عند قوم، وعند آخرين هو بالنون، وقيل: هما أخوان، أحدهما أبو حبة بالباء، والثاني أبو حنة بالنون. والله أعلم.

وقوله: " حتى ظهرت لمستوى " أي: صعدت لمصعد وارتقيت لمرتقى.

و" صريف الأقلام ": صوت ما تكتبه الملائكة بأقلامها من أقضية الله تعالى ووحيه، أو ما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله من ذلك.

ويقال: إن صريف القلم: هو تصويته في رجوعه إلى ورائه، مثل كتابته لحرف " كـ "، وصريره: هو تصويته في مجيئه إلى بين يديه، مثل كتابته لحرف "ن" وما أشبه ذلك.

وقوله: " ففرض الله على أمتي خمسين صلاة " وفي رواية شريك بن أبي نمر ، عن أنس : " ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة ".

وقد تفرد شريك بهذه الألفاظ في هذا الحديث، وهي مما أنكرت عليه فيه.

وقوله: " فرجعت بذلك حتى مررت بموسى "، وذكر مراجعته له وأمره بالرجوع إلى ربه ليخفف عن أمته - استدل بهذا من رجح رواية من روى أن موسى كان في السماء السابعة، كما في رواية الزهري وشريك ، عن أنس ، [ ص: 115 ] قال: لأنه لو كان إبراهيم في السابعة لكانت المراجعة بينه وبين إبراهيم .

ومن رجح أن موسى في السماء السادسة، كما في رواية قتادة عن أنس ، قال: إنما وقعت المراجعة من موسى عليه السلام ; لأنه كان له أمة عظيمة، عالجهم أشد المعالجة، وكان عليهم في دينهم آصار وأثقال، فلهذا تفرد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك دون إبراهيم عليه السلام.

وفي رواية شريك بن أبي نمر ، عن أنس التي خرجها البخاري في آخر " صحيحه " هذا: " أن موسى عليه السلام قال له: " إن أمتك لا تستطيع ذلك " فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل أن نعم، إن شئت، فعلا به إلى الجبار سبحانه وتعالى، فقال وهو في مكانه: يا رب، خفف عنا؟ فإن أمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل موسى يردده إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمد ، والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذه فضعفوا وتركوه، وأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك، كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل ، فرفعه عند الخامسة، فقال: يا رب، إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم فخفف عنا، فقال الجبار عز وجل: يا محمد ، قال: لبيك وسعديك، قال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضته عليك في أم الكتاب، فكل حسنة بعشر أمثالها، وهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى ، فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها، قال موسى : قد - والله - راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، فارجع إلى ربك فليخفف عنك - أيضا - [ ص: 116 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا موسى ، قد - والله - استحييت من ربي، مما أختلف إليه. قال: فاهبط باسم الله، قال: فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ".

وهذه اللفظة مما تفرد بها شريك ، وقد تعلق بها من قال: إن الإسراء كان مناما، وأجاب عنها قوم - على تقدير أن تكون محفوظة -: بأن المراد باستيقاظه رجوعه إلى حال بشريته المعهودة منه في الأرض، فإنه لما كان في السماء كان في طور آخر غير طور أهل الدنيا، فلم يستفق من تلك الحال التي كان عليها، ولم يرجع إلى حاله المعهودة إلا وهو في المسجد الحرام .

وفي حديث شريك عن أنس : أنه لم يزل يحط عنه عشر صلوات إلى أن صارت خمسا، وكذا في حديث قتادة عن أنس : أنه حط عنه عشرا عشرا، ثم حط عنه خمسا، فصارت خمس صلوات.

وفي حديث ثابت ، عن أنس : أنه حط عنه خمس صلوات، ولم يزل يرده موسى قال: " فلم أزل بين ربي تعالى وبين موسى حتى قال: يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فقلت: قد رجعت إلى ربي عز وجل حتى استحييت منه ".

وفي حديث قتادة ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " قلت: سلمت، فنودي أني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزي الحسنة عشرا ".

وفي رواية شريك ، عن أنس المتقدمة: أن موسى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أن صارت خمسا: " قد - والله - راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ".

[ ص: 117 ] وهو يدل على أن الصلوات الخمس لم تفرض على بني إسرائيل ، وقد قيل: إن من قبلنا كانت عليهم صلاتان كل يوم وليلة.

وقد روي عن ابن مسعود ، أن الصلوات الخمس مما خص الله به هذه الأمة.

ففي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود ، قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، إذ يغشى السدرة ما يغشى، قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات.

وخرجه الترمذي بمعناه، وعنده: " فأعطاه ثلاثا لم يعطهن نبيا كان قبله ".

وقد يعارض هذا ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمني جبريل عند البيت مرتين " فذكر أنه صلى به الصلوات الخمس أول يوم في أول وقت، وفي اليوم الثاني في آخر وقت إلا المغرب، قال: " ثم التفت إلي جبريل فقال: يا محمد ، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين ".

وإن صح هذا فيحمل على أن الأنبياء كانت تصلي هذه الصلوات دون أممهم.

ويدل عليه: ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود من حديث معاذ ، أن النبي [ ص: 118 ] صلى الله عليه وسلم قال: " أعتموا بهذه الصلاة - يعني: صلاة العشاء - فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم ".

وقول ابن مسعود : " إن سدرة المنتهى في السماء السادسة " يعارضه حديث أنس المرفوع من طرقه كلها ; فإنه يدل على أنها في السماء السابعة أو فوق السماء السابعة، والمرفوع أولى من الموقوف.

وفي حديث الزهري ، عن أنس في سدرة المنتهى: " غشيها ألوان، لا أدري ما هي ".

وفي حديث قتادة ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، فقال: هذه سدرة المنتهى ".

وفي حديث ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ".

خرجه مسلم .

وروى مسدد : ثنا يحيى ، عن حميد ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " انتهيت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل الجرار، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتة أو نحو ذلك ".

وخرجه الإمام أحمد ، وعنده: " تحولت ياقوتا وزمردا ".

[ ص: 119 ] وخرج الترمذي من حديث أسماء بنت أبي بكر ، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى، قال: " يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة، أو يستظل بظلها مائة راكب، فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القلال".

وخرجه الجوزجاني وغيره بزيادة في آخره، وهي: "فقلنا: يا رسول الله، فماذا رأيت عندها؟ قال: "فماء مفضض".

وفي حديث أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أو غيره، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر حديث الإسراء بطوله، وفيه: " ثم انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى السدرة، فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة منها مغطية للأمة كلها. قال: فغشيها نور الخلاق عز وجل، وغشيها الملائكة أمثال الغربان حين تقع على الشجر من حب الله عز وجل " - وذكر بقية الحديث.

خرجه البزار في " مسنده " وابن جرير في " تفسيره " والبيهقي في " البعث والنشور " وغيرهم، وفي إسناده بعض اختلاف، وروي موقوفا غير مرفوع.

[ ص: 120 ] وفي هذا تفسير لما تقدم من أنه غشيها فراش من ذهب، فإن الفراش مثل الجراد ونحوه، مما يطير ويقع على الشجر.

وقوله: " ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ "، اختلفت النسخ في هذه اللفظة:

ففي بعضها: " جنابذ " والمراد بها: القباب، وكأنها شبهت - والله أعلم - بجنابذ الورد قبل تفتحها.

وقد ثبت في حديث أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلا ".

وفي بعض النسخ: " حبائل " بالحاء المهملة واللام، وفي بعضها: " جبايل " بالجيم واللام.

وقد قال الأكثرون: إن ذلك كله تصحيف وغلط.

وزعم بعضهم: أن حبائل - بالحاء المهملة واللام - جمع حبال، وأن حبالا جمع حبل، والحبل: ما استطال من الرمل المرتفع كهيئة الجبال، فيكون المراد بذلك: أن في الجنة تلالا من لؤلؤ.

والصحيح: " جنابذ ". والله أعلم.

وقوله: " وإذا ترابها المسك " والمراد - والله أعلم -: أن رائحة ترابها رائحة المسك، وأما لونه فمشرق مبهج كالزعفران، يدل عليه: ما في حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الجنة ملاطها المسك، وتربتها الزعفران ".

[ ص: 121 ] خرجه الإمام أحمد والترمذي ، وابن حبان في " صحيحه ".

والملاط: التراب الذي يختلط بالماء، فيصير كالطين، فلونه لون الزعفران في بهجته وإشراقه.

وريحه كريح المسك، وطعمه كطعم الخبز، يؤكل.

يدل على ذلك: ما في " صحيح مسلم " عن أبي سعيد ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صائد : " ما تربة الجنة ؟ " قال: درمكة بيضاء مسك يا أبا القاسم ، قال: " صدقت ".

وفي " المسند " عن جابر ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود : " إني سائلهم عن تربة الجنة، وهي درمكة بيضاء " فسألهم، فقالوا: هي خبزة يا أبا القاسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الخبز من الدرمك ".

وهذا يدل على أن لونها بيضاء، وقد يكون منها ما هو أبيض ومنها ما هو أصفر كالزعفران. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية