صفحة جزء
2859 225 - حدثنا علي بن مسلم قال : حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة قال : حدثني أبي ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع ليقتلوه ، فانطلق رجل منهم فدخل حصنهم ، قال : فدخلت في مربط دواب لهم ، قال : وأغلقوا باب الحصن ، ثم إنهم فقدوا حمارا لهم فخرجوا يطلبونه ، فخرجت فيمن خرج أريهم أنني أطلبه معهم ، فوجدوا الحمار فدخلوا ودخلت ، وأغلقوا باب الحصن ليلا ، فوضعوا المفاتيح في كوة حيث أراها ، فلما ناموا أخذت المفاتيح ففتحت باب الحصن ثم دخلت عليه ، فقلت : يا أبا رافع فأجابني ، فتعمدت الصوت فضربته فصاح ، فخرجت ثم جئت ، ثم رجعت كأني مغيث فقلت : [ ص: 271 ] يا أبا رافع ، وغيرت صوتي ، فقال : ما لك لأمك الويل ، قلت : ما شأنك ؟ قال : لا أدري من دخل علي فضربني ، قال : فوضعت سيفي في بطنه ثم تحاملت عليه حتى قرع العظم ، ثم خرجت وأنا دهش ، فأتيت سلما لهم لأنزل منه فوقعت فوثئت رجلي ، فخرجت إلى أصحابي فقلت : ما أنا ببارح حتى أسمع الناعية ، فما برحت حتى سمعت نعايا أبي رافع تاجر أهل الحجاز ، قال : فقمت وما بي قلبة حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه .


قيل : لا مطابقة بين الحديث والترجمة إلا إذا أريد بالنائم المضطجع ، وقيل : هذا قتل يقظان نبه من نومه ، وقيل : هذا حكمه حكم النائم ; لأنه لما أجاب الرجل كان في خيال النوم ولهذا لم يتحرك من موضعه ولا قام من مضجعه فكان حكمه حكم النائم ، وهذا الوجه أقرب مع أنه جاء فيه فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته فقتله وهو نائم .

ذكر رجاله وهم خمسة : الأول : علي بن مسلم بكسر اللام الخفيفة ابن سعيد أبو الحسن الطوسي ، سكن بغداد ، وهو من أفراده ، الثاني : يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة واسمه ميمون الهمداني الكوفي القاضي ، الثالث : أبو زكرياء الهمداني الكوفي الأعمى ، الرابع : أبو إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي الكوفي ، الخامس : البراء بن عازب الأنصاري الخزرجي الأوسي رضي الله عنه .

والحديث أخرجه البخاري أيضا مختصرا هنا عن عبد الله بن محمد ، وفي المغازي أيضا عن إسحاق بن نصر .

ذكر معناه ، قوله : " رهطا من الأنصار " الرهط الجماعة من الرجال ما بين الثلاثة إلى التسعة ولا يكون فيهم امرأة ، وهم عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة والأسود بن خزاعي ومسعود بن سنان وعبد الله بن عقبة ، وكان معهم أيضا أسعد بن حرام حليف بني سوادة ، قال السهيلي : ولا نعرف أحدا ذكره غيره ، قلت : ذكره الحاكم أيضا في الإكليل عن الزهري ، وعند الكلبي : عبد الله بن أنيس هو ابن سعد بن حرام ، فإن قلت : ما كان الموجب لبعثه صلى الله عليه وسلم هؤلاء الرهط إلى أبي رافع ، ومتى كان هذا البعث ، قلت : أما الموجب لذلك فما ذكره ابن إسحاق ، فقال : لما انقضى أمر الخندق وأمر بني قريظة ، وكان أبو رافع ممن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فأذن لهم فخرجوا .

وفي طبقات ابن سعد : كان أبو رافع قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب وجعل لهم من الجعل العظيم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين ذكرناهم ، وأما وقت هذا البعث فقال ابن سعد : كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة ، وقيل : في ذي الحجة سنة خمس ، وفي الإكليل : كان بعد بدر ، وقيل : بعد غزوة السويق ، وقال النيسابوري : قبل دومة الجندل ، وقال ابن حبان : بعد بدر الموعد آخر سنة أربع ، وقال أبو معشر : بعد غزوة ذات الرقاع وقبل سرية عبد الله بن رواحة ، وقال الزهري : هو بعد كعب بن الأشرف ، قوله : " إلى أبي رافع " واسمه عبد الله ، ويقال سلام بن أبي الحقيق بضم الحاء المهملة وفتح القاف الأولى وسكون الياء آخر الحروف اليهودي ، قوله : " فانطلق رجل منهم " هو عبد الله بن عتيك بفتح العين المهملة وكسر التاء المثناة من فوق الأنصاري من بني عمرو بن عوف ، استشهد يوم اليمامة ، قال أبو عمر : وأظنه وأخاه جابر بن عتيك شهدا بدرا ، ولم يختلف أن عبد الله شهد أحدا ، وقال ابن الكلبي وأبوه : إنه شهد صفين مع علي رضي الله تعالى عنه ، فإن كان هذا فلم يقتل يوم اليمامة ، قوله : " فدخل حصنهم " يقال إنه حصن بأرض الحجاز والظاهر أنه خيبر ، قوله : " أريهم " بضم الهمزة وكسر الراء من الإراءة ، قوله : " في كوة " بضم الكاف وفتحها وهي الثقب في جدار البيت ، قوله : " ففتحت باب الحصن ثم دخلت " فإن قيل : كان هو داخل الحصن فما معناه ، أجيب بأنه كان للحصن مغاليق وطبقات ، قوله : " فتعمدت الصوت " أي اعتمدت جهة الصوت إذ كان الموضع مظلما ، قوله : " ما لك " كلمة ما للاستفهام مبتدأ ولك خبره ، قوله : " لأمك الويل " القياس أن يقال على أمك الويل ، وإنما ذكر اللام لإرادة الاختصاص بهم ، قوله : " تحاملت عليه " أي تكلفته على مشقة ، قوله : " حتى قرع العظم " أي أصابه ، ومنه قرعته الداهية أي أصابته ، وأصل القرع الضرب .

قوله : " وأنا دهش " جملة اسمية وقعت حالا [ ص: 272 ] ودهش بفتح الدال وكسر الهاء صفة مشبهة أي متحير مدهوش ، قوله : " فوثئت " بضم الواو وكسر الثاء المثلثة من الوثأ وهو أن يصيب العظم وصم لا يبلغ الكسر ، وذكر ثعلب هذه المادة في باب المهموز من الفعل ، يقال : وثئت يده فهي موثوءة ووثأتها أنا ، وأما ابن فارس فقال : وقد يهمز ، وقال الخطابي : والواو مضمومة على بناء الفعل لما لم يسم فاعله ، قوله : " ما أنا ببارح " أي بذاهب ، قوله : " الناعية " بالنون وكسر العين المهملة على وزن فاعلة من النعي وهو الإخبار بالموت ، ويروى " الواعية " أي الصارخة التي تندب القتيل ، والوعي الصوت ، قال صاحب العين : الوعي جلبة وأصوات الكلاب في الصيد ، وقال : الداعية التي تدعو بالويل والثبور وهي النائحة .

قوله : " سمعت نعايا أبي رافع " كذا الرواية وصوابه نعاي بغير ألف ، كذا تقوله النحاة ، وقال الخطابي : هكذا يروى : " نعايا أبي رافع " وحقه أن يقال نعاي أبي رافع أي انعوا أبا رافع ، كقولهم دراك بمعنى أدركوا ، وزعم سيبويه أنه يطرد هذا الباب في الأفعال الثلاثية كلها أن يقال فيها فعال بمعنى افعل نحو حذار ومناع ونزال كما تقول انزل واحذر وامنع ، وقال الأصمعي : كانت العرب إذا مات فيهم ميت ركب راكب فرسا وجعل يسير في الناس ويقول نعاء فلانا أي أنعه وأظهر خبر وفاته ، قال أبو نصر : وهي مبنية على الكسر ، وقال الداودي : نعايا جمع ناعية ، والأظهر أنه جمع نعي مثل صفايا جمع صفي ، وفي المطالع نعايا أبي رافع هو جمع نعي أي أصوات المنادين بنعيه من الرجال والنساء ، وقد يحتمل أن تكون هذه الكلمة كما جاء في الخبر الآخر في حديث شداد بن أوس نعايا العرب ، كذا في الحديث ، قال الأصمعي : إنما هو يا نعاء العرب أي يا هؤلاء انعوا العرب ، وقال الكرماني : يحتمل أن نعاء من أسماء الأفعال وقد جمع على نحو خطايا شاذا ، ويحتمل أن يكون جمع نعي أو ناعية ، قلت : هو من أسماء الأفعال بلا احتمال ; لأنه بمعنى انعوا كما ذكرنا ، وقوله : أو ناعية ، نقله من كلام الداودي ، وفيه نظر لا يخفى .

قوله : " وما بي قلبة " بالقاف واللام والباء الموحدة المفتوحات ، أي ما بي علة ، قال الفراء : أصله من القلاب وهو داء يصيب الإبل ، وزاد الأصمعي : تموت من يومها به فقيل ذلك لكل سالم ليس به علة ، وقال ابن الأعرابي : معناه ليست به علة يقلب لها فينظر إليه ، وأصل ذلك في الدواب ، وعن الأصمعي : معناه ما به داء وهو من القلاب داء يأخذ الإبل في رؤوسها فيقلبها إلى فوق ، وقال الفراء : ما به علة يخشى عليه فيها ، وهو من قولهم قلب الرجل إذا أصابه وجع في قلبه وليس يكاد يفلت منه ، وقال غيره : ما به شيء يقلقه فيقلب منه على فراشه ، وقال النحاس : حكى عبد الله بن مسلم أن بعضهم يقول في هذا أي ما به حول ثم استعير من هذا الأصل لكل سالم ليست به آفة ، قوله : " فأخبرناه " أي أخبرنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بموت أبي رافع .

ثم إن الذي يظهر من هذا الحديث أن الذي قتله هو عبد الله بن عتيك ، وقال ابن سعد وغيره : لما ذهب الجماعة المذكورون إلى خيبر كمنوا ، فلما هدأت الرجل جاءوا إلى منزله فصعدوا درجة له وقدموا عبد الله بن عتيك ; لأنه كان يرطن باليهودية واستفتح وقال : جئت أبا رافع بهدية ففتحت له امرأته فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشاروا إليها بالسيف فسكتت ، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضه كأنه قبطية ، فعلوه بأسيافهم ، قال ابن أنس : وكنت رجلا أعشى لا أبصر فأتكئ بسيفي على بطنه حتى سمعت حسه في الفراش وعرفت أنه قضى ، وجعل القوم يضربونه جميعا ثم نزلوا وصاحت امرأته فتصايح أهل الدار ، واختبأ القوم في بعض مياه خيبر ، وخرج الحارث أبو زينب في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران فلم يجدوهم فرجعوا ، ومكث القوم في مكانهم يومين حتى سكن الطلب ثم خرجوا إلى المدينة وكلهم يدعي قتله ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيافهم فنظر إليها فإذا أثر الطعام في ذبابة سيف ابن أنيس ، فقال : هذا قتله .

وفي كتاب دلائل النبوة : قتله ابن عتيك ، ودفف عليه ابن أنيس ، وفي الإكليل ، عن ابن أنيس قال : ظهرت أنا وابن عتيك وقعد أصحابنا في الحائط ، فاستأذن ابن عتيك ، فقالت امرأة ابن أبي الحقيق : إن هذا لصوت ابن عتيك ، فقال ابن أبي الحقيق : ثكلتك أمك ابن عتيك بيثرب أنى هو هذه الساعة ، افتحي فإن الكريم لا يرد عن بابه هذه الساعة أحدا ، ففتحت فدخلت أنا وابن عتيك ، فقال لابن عتيك : دونك ، فشهرت عليها السيف ، فأخذ ابن أبي الحقيق وسادة فاتقاني بها ، فجعلت أريد أن أضربه فلا أستطيع ، فوخزته بالسيف وخزا ثم خرجت إلى ابن أنيس ، فقال : أقتلته ؟ قلت : نعم .

وقال الواقدي : كانت أم ابن عتيك التي أرضعته يهودية ، [ ص: 273 ] بخيبر ، فأرسل إليها يعلمها بمكانه ، فخرجت إلينا بجراب مملوء تمرا لينا وخبزا ، ثم قال لها : يا أماه أما لو أمسينا لبتنا عندك فأدخلينا خيبر ، فقالت : وكيف تطيق خيبر وفيها أربعة آلاف مقاتل ، ومن تريد فيها ، قال : أبا رافع ، قالت : لا تقدر عليه ، ثم قالت : ادخلوا علي ليلا ، فدخلوا عليها ليلا لما نام أهل خيبر في حمر الناس ، وأعلمتهم أن أهل خيبر لا يغلقوا عليهم أبوابهم فرقا أن يتطرقهم ضيف ، فلما هدأت الرجل قالت : انطلقوا حتى تستفتحوا على أبي رافع ، فقولوا إنا جئنا له بهدية ، فإنهم سيفتحون لكم ، فلما انتهوا إليه استهموا عليه فخرج سهم ابن أنيس .

ذكر ما يستفاد منه : فيه جواز الاغتيال على من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أو مال أو رأي ، وكان أبو رافع يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤلب الناس عليه ، وفيه جواز التجسس على المشركين وطلب غرتهم ، وفيه الاغتيال بالحرب والإيهام بالقول ، وفيه الأخذ بالشدة في الحرب والتعرض لعدد كثير من المشركين ، وفيه الإلقاء إلى التهلكة باليد في سبيل الله ، وأما الذي نهي عنه من ذلك فهو في الإنفاق في سبيل الله لئلا تخلى يده من المال فيموت جوعا وضياعا ، وفيه الحكم بالدليل المعروف والعلامة المعروفة على الشيء كحكم هذا الرجل بالناعية .

التالي السابق


الخدمات العلمية