صفحة جزء
3673 وقول الله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى


وقول الله بالجر عطف على حديث الإسراء . قوله : " سبحان " علم للتسبيح كعثمان علم للرجل ، وأصله للتنزيه ، والمعنى : أسبح الله الذي أسرى بعبده : أي أنزهه من جميع النقائص والعيوب . قوله : " بعبده " والمراد به النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وإنما لم يقل برسوله أو نبيه ; إشارة إلى أنه مع هذا الإكرام الذي أكرمه الله تعالى ، وهذا التعظيم الذي عظمه الله به هو عبده ومخلوقه ; لئلا يتغالوا فيه ، كما تغالت النصارى في المسيح حيث قالوا : إنه ابن الله ، وكما تغالى طائفة من اليهود في عزير عليه الصلاة والسلام حيث قالوا : إنه ابن الله تعالى ، وتعظم أن يكون له ابن ، بل هو واحد أحد فرد صمد ، ليس بأب ولا بابن .

قوله : " أسرى " مأخوذ من السرى ، وهو سير الليل ، يقال : أسرى وسرى إذا سار ليلا ، وكلاهما بمعنى واحد عند الأكثرين ، وقالالحوفي : أسرى سار ليلا ، وسرى سار نهارا ، وقيل : أسرى سار من أول الليل ، وسرى سار من آخره ، ومعنى أسرى به : أي جعل البراق ساريا به من المسجد الحرام وهو مسجد مكة إلى المسجد الأقصى وهو مسجد بيت المقدس .

قوله : " ليلا " ظرف للإسراء ، وهو للتأكيد ، وفائدته دفع توهم المجاز ; لأن الإسراء قد يطلق على سير النهار كما ذكرناه ، ويقال : هو إشارة إلى أن ذلك وقع في بعض الليل لا في جميعه ، والعرب تقول : أسرى فلان ليلا إذا سار بعضه ، وسرى ليله إذا سار جميعه .

فإن قلت : ما الحكمة في إسرائه إلى بيت المقدس ، ثم إلى السماوات ، فهلا أسري به من المسجد الحرام إلى السماوات ؟ .

قلت : ليجمع - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة بين رؤية القبلتين ، أو لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله ، فرحل إليه ليجمع بين أشتات الفضائل ، أو لأنه محل المحشر ، وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية ، وكان الإسراء إليه .

فإن قلت : هل كانت ليلة الإسراء هي ليلة المعراج أيضا ، أو هما متغايرتان ؟ .

قلت : قال ابن دحية : مال البخاري إلى أنهما متغايرتان ; لأنه أفرد لكل منهما ترجمة ، ورد عليه بأنه لا دلالة في ذلك على التغاير عنده، بل كلامه في أول الصلاة ظاهر في اتحادهما ; لأنه ترجم باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء ، والصلاة إنما فرضت في المعراج ، فدل على اتحادهما عنده .

قلت : فيه تأمل ، واختلف السلف في هذا ، فمنهم من ذهب إلى أنهما وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسده وروحه - صلى الله عليه وسلم - بعد المبعث ، وهذا مذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين ، ومنه من ذهب إلى أن الإسراء كان في ليلة والمعراج في ليلة ، ومنهم من ذهب إلى أن ذلك كله وقع مرتين : مرة في المنام ; توطئة وتمهيدا ، ومرة ثانية في اليقظة ، فقالوا : الإسراء في اليقظة ، والمعراج في المنام ، والذين قالوا : الإسراء [ ص: 20 ] في ليلة ، والمعراج في ليلة أخرى ، وأنهما في اليقظة قالوا في الأول رجع من بيت المقدس ، وفي صبيحته أخبر قريشا بما وقع ، وفي الثاني أسري به إلى بيت المقدس ، ثم عرج به من ليلته إلى السماء إلى آخر ما وقع ، ومنهم من قال : بوقوع المعراج مرارا ، منهم الإمام أبو شامة ، واستندوا في ذلك إلى ما أخرجه البزار ، وسعيد بن المنصور من طريق أبي عمران الجوني ، عن أنس ، رفعه قال : " بينا أنا جالس إذ جاء جبريل عليه الصلاة والسلام ، فوكز بين كتفي ، فقمنا إلى صخرة مثل وكرى الطائر ، فقعدت في أحدهما ، وقعد جبريل في الآخر ، فارتفعت حتى سدت الخافقين " الحديث ، وفيه فتح لي باب من السماء ، ورأيت النور الأعظم ، قيل : الظاهر أنها وقعت في المدينة .

التالي السابق


الخدمات العلمية