صفحة جزء
1375 ( وحدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب قال : حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمن حدثه أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره ، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها ، فهو يوسعها ولا تتسع ) .
هذا طريق آخر أتم من الأول ، رواه عن أبي اليمان الحكم بن نافع ، عن شعيب بن أبي حمزة ، عن أبي الزناد بالزاي والنون ، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة .

( ذكر معناه ) : قوله : " مثل البخيل والمنفق " .

وفي رواية مسلم : " مثل المنفق والمتصدق كمثل رجل عليه جنتان أو جبتان " ، وقال القاضي عياض : وقع في هذا الحديث أوهام كثيرة من الرواة تصحيف وتحريف وتقديم وتأخير ، فمنه مثل المنفق والمتصدق ، ومنه كمثل رجل وصوابه رجلين عليهما جبتان ، ومنه قوله " جبتان أو جنتان " بالنون بالشك ، والصواب : جنتان بالنون بلا شك ، قوله " من ثديهما " بضم الثاء المثلثة وكسر الدال كذا في رواية أبي الحسن جمع ثدي ، نحو الفلوس والفلس فعلى هذا أصله ثدوي ، اجتمعت الواو والياء ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء ، فصار ثدي بضم الدال ، ثم أبدلت الضمة كسرة لأجل الياء ، وقال ابن التين : ويصح نصب الثاء .

وفي رواية " ثدييهما " بالتثنية .

وفي المجمل : الثدي بالفتح للمرأة ، والجمع الثدي يذكر ، ويؤنث .

وفي المخصص والجمع أثد ، وقال الجوهري : الثدي للرجل والمرأة ، والجمع أثد وثدي على فعول ، وثدي بكسر الثاء ، قوله " إلى تراقيهما " جمع ترقوة ، ويقال : الترائق أيضا على القلب ، وقال ثابت في خلق الإنسان : الترقوتان هما العظمان المشرفان في أعلى الصدر من رأس المنكبين إلى طرف ثغرة النحر ، وهي اللهزمة التي بينهما .

وفي المخصص : هي من رقى يرقى .

( فإن قلت ) : لم لا تقلب الواو ألفا ؟ ( قلت ) : لئلا يختل البناء كما في سرو .

وفي الصحاح : لا تقل ترقوة بالضم ، قوله " إلا سبغت " ، أي : امتدت وغطت . وقيل : كملت وتمت ، وضبطه الأصيلي بضم التاء ، وهو شيء لا يعرف ، قوله : " أو وفرت " شك من الراوي من الوفور بمعنى كملت .

وفي التلويح : سبغت أو مرت على جلد ، كذا في النسخ مرت ، وقال النووي : وقيل : صوابه يعني في مسلم مدت بالدال ، بمعنى سبغت كما في الحديث الآخر " انبسطت " .

وفي التلويح ، وفي بعض نسخ البخاري : " مادت " بدال مخففة من ماد إذا مال ، ورواه بعضهم : مارت ، ومعناه سالت عليه ، وامتدت . قال الأزهري : معناه ترددت وذهبت وجاءت بكمالها ، قوله " حتى تجن " بضم التاء المثناة من فوق وكسر الجيم ، وتشديد النون هذا في رواية الحميدي ، ومعناه : حتى تستر من أجن إذا ستر ، وكذلك جن بمعناه ، ويروى حتى يخفى .

وقال [ ص: 309 ] ابن التين : رواه أبو سليمان حتى تجر بنانه ، وقال النووي : ورواه بعضهم : يحز بحاء وزاي ، وهو وهم ، والصواب : تجن بجيم ونون ، قوله : " بنانه " ، أي : أصابعه ، وهو رواية الجمهور كما في الحديث الآخر أنامله ، ويروى ثيابه بثاء مثلثة ، وهو وهم وقد وقع في رواية الحسن بن مسلم : حتى تغشى بالغين والشين المعجمتين ، قوله : " وتعفو أثره " ، أي : يمحو أثره ، وهو يجيء لازما ومتعديا ، فهنا متعد ; لأنه نصب أثره ، وأثره بفتح الهمزة وفتح الثاء المثلثة وبكسر الهمزة وسكون الثاء ، معناه : تمحو أثر مشيه بسبوغها وكمالها ، وقال الداودي : يعفى أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل عليه ; لأن المنفق إذا أنفق طال ذلك اللباس الذي عليه حتى يجره بالأرض ، قوله : " لزقت " ، أي : التصقت .

وفي رواية مسلم : انقبضت .

وفي رواية همام : عضت كل حلقة مكانها ، وفي رواية سفيان عند مسلم : قلصت ، وكذا في رواية الحسن بن مسلم عند البخاري ، وزعم ابن التين أن فيه إشارة إلى أن البخيل يكوى بالنار يوم القيامة . قوله " فهو يوسعها ولا تتسع " .

وفي رواية عند مسلم ، قال أبو هريرة : فهو يوسعها ، ولا يتسع .

( فإن قلت ) : هذا يوم أنه مدرج ؟ ( قلت ) : ليس كذلك ، وقد وقع التصريح برفع هذه الجملة في طريق طاوس ، عن أبي هريرة .

وفي رواية ابن طاوس عند البخاري في الجهاد ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : فيجتهدان يوسعها ولا تتسع .

وفي رواية لمسلم : فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره .

وفي رواية الحسن بن مسلم عندهما : فأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بإصبعه هكذا في جيبه ، فلو رأيته يوسعها ، ولا تتسع ، وعند أحمد من طريق ابن إسحاق ، عن أبي الزناد في هذا الحديث : وأما البخيل فإنها لا تزداد عليه إلا استحكاما ، وهذا بالمعنى ، وقال الخطابي : هذا مثل ضربه - صلى الله عليه وسلم - للجواد والبخيل ، وشبههما برجلين ، أراد كل واحد منهما أن يلبس درعا يستجن بها ، والدرع أول ما يلبس ، إنما يقع على موضع الصدر والثديين إلى أن يسلك لابسها يديه في كميه ، ويرسل ذيلها على أسفل بدنه ، فيستمر سفلا ، فجعل - صلى الله عليه وسلم - مثل المنفق مثل من لبس درعا سابغة ، فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه وحصنته ، وجعل البخيل كرجل يداه مغلولتان ما بين دون صدره ، فإذا أراد لبس الدرع حالت يداه بينها وبين أن تمر سفلا على البدن ، واجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته ، فكانت ثقلا ووبالا عليه من غير وقاية له ، وتحصين لبدنه ، وحاصله أن الجواد إذا هم بالنفقة اتسع لذلك صدره ، وطاوعت يداه ، فامتدتا بالعطاء ، وأن البخيل يضيق صدره وتنقبض يده عن الإنفاق . وقيل : ضرب المثل بهما ; لأن المنفق يستره الله بنفقته ، ويستر عوراته في الدنيا والآخرة كستر هذه الجبة لابسها ، والبخيل كمن لبس جبة إلى ثدييه فيبقى مكشوفا ظاهر العورة مفتضحا في الدارين ، وقال ابن بطال : يريد أن المنفق إذا أنفق كفرت الصدقة ذنوبه ومحتها ، كما أن الجبة إذا أسبغت عليه سترته ووقته ، والبخيل لا تطاوعه نفسه على البذل ، فيبقى غير مكفر عنه الآثام ، كما أن الجبة تبقي من بدنه ما لا تستره فيكون معرض الآفات ، وقال الطيبي : شبه السخي إذا قصد التصدق يسهل عليه بمن عليه الجبة ، ويده تحتها ، فإذا أراد أن يخرجها منها يسهل عليه ، والبخيل على عكسه ، والأسلوب من التشبيه المفرق ، قال : وقيد المشبه به بالحديد إعلاما بأن القبض والشدة جبلة الإنسان ، وأوقع المتصدق موضع السخي مع أن مقابل البخيل هو السخي لا المتصدق ، إشعارا بأن السخاوة هي ما أمر به الشرع ، وندب إليه من الإنفاق إلا ما يتعاناه المبذرون ، وقال المهلب : المراد أن الله يسر المنفق في الدنيا وفي الآخرة بخلاف البخيل ، فإنه يفضحه ، ومعنى تعفو أثره : تمحو خطاياه ، واعترض عليه القاضي عياض بأن الخبر جاء على التمثيل لا على الإخبار عن كائن . وقيل : هو تمثيل لنماء المال بالصدقة ، والبخل بضده . وقيل : تمثيل لكثرة الجود والبخل وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء ، وتعود ذلك ، فإذا أمسك صار ذلك عادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية