صفحة جزء
2054 وأن بيعه مردود; لأن صاحبه عاص آثم إذا كان به عالما، وهو خداع في البيع، والخداع لا يجوز.


وأن بيعه بفتح الهمزة، أي: وأن بيع متلقي الركبان مردود، والضمير يرجع إلى المتلقي الذي يدل عليه قوله: "عن تلقي الركبان" كما في قوله: اعدلوا هو أقرب أي: العدل الذي هو المصدر يدل عليه اعدلوا، والمراد بالبيع العقد، وقوله: مردود، أي: باطل يرد إذا وقع، وقد ذهب البخاري في هذا إلى مذهب الظاهرية، وقال بعضهم: جزم البخاري بأن البيع مردود بناء على أن النهي يقتضي الفساد، لكن محل ذلك عند المحققين فيما يرجع إلى ذات النهي لا فيما إذا كان يرجع إلى أمر خارج عنه، فيصح البيع ويثبت الخيار بشرطه. انتهى.

قلت: هؤلاء المحققون هم الحنفية، فإن مذهبهم في باب النهي هذا، وينبني على هذا الأصل مسائل كثيرة محلها كتب الفروع، وقال ابن حزم: وهو حرام سواء خرج للتلقي أم لا، بعد موضع تلقيه أم قرب، ولو أنه عن السوق على ذراع، والجالب بالخيار إذا دخل السوق في إمضاء البيع أو رده، وقال ابن المنذر: كره تلقي السلع بالشراء مالك والليث والأوزاعي، فذهب مالك إلى أنه لا يجوز تلقي السلع حتى تصل إلى السوق، ومن تلقاها فاشتراها منهم يشترك فيها أهل السوق إن شاءوا كان واحدا منهم، وقال ابن القاسم: وإن لم يكن للسلعة سوق عرضت على الناس في المصر فيشتركون فيها إن أحبوا، فإن أخذوها وإلا ردوها عليه، ولا يرد على بائعها، وقال غيره: يفسخ البيع في ذلك، وقال الشافعي: من تلقاها فقد أساء، وصاحب السلعة بالخيار إذا قدم به السوق في إنفاذ البيع أو رده; لأنهم يتلقونهم فيخبرونهم بكساد السلع وكثرتها، وهم أهل غرة ومكر وخديعة، وحجته حديث أبي هريرة: فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار.

وذهب مالك أن نهيه عن التلقي إنما يريد به نفع أهل السوق لا نفع رب السلعة، وعلى ذلك يدل مذهب الكوفيين والأوزاعي، وقال الأبهري: معناه: لئلا يستفيد الأغنياء وأصحاب الأموال بالشراء دون أهل الضعف، فيؤدي ذلك إلى الضرر بهم في معايشهم، ولهذا المعنى قال مالك: إنه يشترك معهم إذا تلقوا السلع، ولا ينفرد بها الأغنياء.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا كان التلقي في أرض لا يضر بأهلها فلا بأس به، وإن كان يضرهم فهو مكروه، واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر قال: "كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى نبلغ به سوق الطعام" وقال الطحاوي: في هذا الحديث إباحة التلقي، وفي أحاديث غيره النهي عنه، وأولى بنا أن نجعل ذلك على غير التضاد، فيكون ما نهي عنه من التلقي لما في ذلك من الضرر على غير المتلقين المقيمين في السوق، وما أبيح من التلقي هو ما لا ضرر فيه عليهم، وقال الطحاوي أيضا: والحجة في إجازة الشراء مع التلقي المنهي عنه حديث أبي هريرة: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فهو بالخيار إذا أتى السوق" فيه جعل الخيار مع النهي، وهو دال على الصحة; إذ لا يكون الخيار إلا فيها; إذ لو كان فاسدا لأجبر بائعه ومشتريه على فسخه.

(قلت): حديث أبي هريرة هذا أخرجه مسلم وأبو داود والطحاوي أيضا، وحديث ابن [ ص: 285 ] عمر المذكور الآن أخرجه مسلم والطحاوي.

قوله: "لأن صاحبه" أي: صاحب التلقي "عاص آثم" أي: مرتكب الإثم "إذا كان به" أي: بالنهي عن تلقي الركبان "عالما" لأنه ارتكب المعصية مع علمه بورود النهي عن ذلك، والعلم شرط لكل ما نهي عنه.

قوله: "وهو خداع" أي: تلقي الركبان خداع للمقيمين في الأسواق أو لغير المتلقين، والخداع حرام؛ لقوله - صلى الله تعالى عليه: "الخديعة في النار" أي: صاحب الخديعة، وقال بعضهم: لا يلزم من ذلك، أي: من كونه خداعا أن يكون البيع مردودا; لأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد، ولا يخل بشيء من أركانه وشرائطه، بل لدفع الضرر بالركبان.

(قلت): هذا التعليل هو الذي يقول به الحنفية في أبواب النهي، والعجب من الشافعية أنهم يقولون: إن النهي يقتضي الفساد، ثم مطلقا في بعض المواضع يذهبون إلى ما قاله الحنفية، وقال بعضهم: ويمكن أن يحمل قول البخاري: "إن البيع مردود" على ما إذا اختار البائع رده فلا يخالف الراجح.

(قلت): هذا الحمل الذي ذكره هذا القائل يرده هذه التأكيدات التي ذكرها وهي قوله: "لأن صاحبه عاص" إلى آخره، ولم يبق بعد هذه إلا أن يقال: "كاد أن يخرج من الإيمان" ألا ترى إلى الإسماعيلي كيف اعترض عليه وألزمه هذا التناقض ببيع المصراة فإن فيه خداعا ومع ذلك لم يبطل البيع، وبكونه فصل في بيع الحاضر للبادي بين أن يبيع له بأجر أو بغير أجر، واستدل عليه أيضا بحديث حكيم بن حزام الماضي في بيع الخيار ففيه: "فإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما" قال: فلم يبطل بيعها بالكذب والكتمان للعيب، وقد ورد بإسناد صحيح أن صاحب السلعة إذا باعها لمن تلقاه يصير بالخيار إذا دخل السوق، ثم ساقه من حديث أبي هريرة. انتهى.

ولو كان للحمل الذي ذكر القائل المذكور وجه لذكره الإسماعيلي، ولا أطنب في هذا الاعتراض، وقال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة التلقي وكرهه الجمهور .

(قلت): ليس مذهب أبي حنيفة كما ذكره على الإطلاق، ولكن على التفصيل الذي ذكرناه عن قريب، والعجب من ابن المنذر وأمثاله كيف ينقلون عن أبي حنيفة شيئا لم يقل به، وإنما ذلك منهم من أريحية العصبية على ما لا يخفى.

التالي السابق


الخدمات العلمية